بدأت بوادر حرب باردة جديدة تطفو وتنتشر على سطح الأحداث في محيط بحر قزوين ومنطقة القوقاز في آسيا الوسطى في أعقاب الثورات البرتغالية في كل من أوكرانيا وجورجيا التي أطاحت بالأنظمة الموالية لروسيا، وعادت اليوم لتظهر بكل حدة بعد الهجوم الجورجي على إقليم اوسيثيا الجنوبية في محاولة مبيتة لإعادته لحظيرتها مما كشف معه سلسلة الحروب المستعرة تحت سطح المجاملات الباردة بين روسيا وأمريكا بما فيها حرب النفوذ على مناطق النفط والغاز والأنابيب الناقلة في بحر قزوين والقوقاز. وحرب استقطاب جمهوريات آسيا الوسطى وتوسع حلف الاطلسي بضم جورجيا والدول الأخرى المتاخمة للحدود الروسية كأعضاء في الأطلسي ثم في الاتحاد الاوروبي, وحرب الدرع الصاروخية الأمريكية بنشرها في بولندا وتشيكيا، وما يتم ضمه من جمهوريات أخرى كجورجيا نفسها. وهذه الحروب الثلاثة القابلة للتفجير في أي وقت تشكل تهديداً صارخاً للأمن الروسي عبر محاولة تطويقها بالدول الموالية لامريكا وافقادها قوتها الاستراتيجية والاقتصادية معاً. واسقاط هيبتها وشل إرادتها هو ما تعتبره روسيا خطاً أحمر قانياً بدأت أمريكا بتجاوزه مؤخراً عبر جورجيا مما أعاد الحرب الباردة الى أوج توهجها والذي تم تصعيده على نحو لافت من خلال الإتهامات المتبادلة بين الجانبين. أما أمريكا فقد سارعت لإتهام روسيا بمحاولة الإطاحة بالرئيس الجورجي الموالي لها، فردت روسيا بمحاولات امريكا لمضايقتها في منقطتها ومحيطها الحيوي من خلال مشاركتها الفعلية بالنزاع بنقل الكتيبة الجورجية من العراق إلى منطقة النزاع على متن طائراتها العسكرية، وتحريضها لأوكرانيا بمنع حركة قطع الأسطول الروسي في البحر الأسود وسماحها لإسرائيل بالتدخل عبر عمليات التدريب والتسليح وحشد الخبراء والمستشارين وتزويدها بطائرات التجسس العسكرية. وفي سياق حرب الكلام وتبادل الاتهام عاود وزير الدفاع الامريكي روبرت غيتس ليهدد روسيا ببعض العواقب ما فيها تحديد المسار المستقبلي لعلاقات البلدين بسبب الرد الصارم على جورجيا, وهددت روسيا بالمقابل بتكرار السيناريو المأساوي إياه في حال استمر الدعم الامريكي لجورجيا وتحريضها، وأما عملياًو فقد تم التصعيد بإلغاء أمريكا مناورات كانت تزمع إجراءها مع روسيا في نهاية شهر اغسطس 2008م، كما تم الإعلان المفاجئ عن ابرام اتفاق مع بولندا لنشر الدرع الصاروخية على أراضيها. وهكذا, فان سيناريو التصعيد، تصعيد الحرب الباردة بين روسيا وامريكا عاد ليتجلى بكل تفاصيله عبر مجريات الأحداث الأخيرة والنزاع حول إقليم اوسيتيا الجنوبية الذي فجرها من جديد ليكشف عن بؤر النزاع الساخنة وفي مقدمتها النفط وتمدد حلف الأطلسي والدرع الصاروخية والتي لم يعد السكوت عليها ممكناً بالنسبة لروسيا، فهي قضايا استراتيجية من الدرجة الاولى وليست قضايا فرعية ثانوية مما يجعل المسألة لا تتوقف على مجرد اسقاط الهيبة الروسية ولكن على اسقاط مقومات وعناصر الأمن الوطني الروسي مما ينبئ عن استمرار الصراع المؤهل بكل قوة للتصعيد مع اصرار امريكا على تحقيق اهدافها الاستراتيجية في آسيا الوسطى , وتحقيق خطة ديك تشيني للسيطرة على منابع النفط وحقول الطاقة في العالم بما فيها بحر قزوين، وهو ما يفسر تهديداته الأخيرة، وهو ما كان قد دفع امريكا لشن حروبها في أفغانستان، فالعراق وربما إيران اذا لزم الامر. وباختصار، فان الحرب الباردة عادت لتطرق الأبواب التي فتحت جورجيا مغاليقها بكل عنف وزخم. اليوم، ليس لدى روسيا مشروع سياسي أو نطرية كونية تسعى لنشرها وترويجها في العالم، بمعنى انها غير معنية كثيرا في بسط نفوذ عسكري وسياسي عبر القارات إلا في حدود الدفاع عن مصالحها الحيوية كدولة كبرى تمتلك ترسانة نووية هائلة. أما امريكا وحلفاؤها فلديهم مشروعهم في تعزيز الرأسمالية والليبرالية والعولمة، لكن الأمر الواضح أن روسيا بدأت مرحلة جديدة في غير صالح واشنطن. وبعض القراءات تعتقد أن الحرب الباردة أصبحت أمراً واقعاً، بل ان بعض المراقبين لا يستبعد ان تكون جورجيا شرارة حرب عالمية جديدة، وقد تكون المواجهة الراهنة بين واشنطن وموسكو مرحلة عض أصابع ومحاولة كل طرف لي ذراع الآخر لإعادة ترتيب الاوراق وفقاً لمصالح البلدين دون استبعاد الاتفاق على تسوية، ولكن المسألة مرتبطة بمسار السياسة الأمريكية خلال الفترة المقبل. وفي خضم هذا الحراك الدولي يبقى العرب يتفرجون لا حول لهم ولا قوة!! وللمقال تتمة