يرصد المراقبون للشأن الجورجى تعقّد العلاقات الروسية - الجورجية - الأمريكية في السنوات الأخيرة، منذ أن اتخذت جورجيا وجهتها الغربية لتأكيد ابتعادها عن روسيا بماضيها القيصري والسوفيتي الذي عانت منه الكثير . وادي بنكيسي ..مثار صراع ساخن على الحدود بين الشيشان ( روسيا ) وجورجيا يقع حاجز جبلي ضخم هو جزء من جبال القوقاز العالية التي تزيد منسوباً عن 5000م .والممرات بين هذه الجبال الشاهقة قاصرة على الوديان التي قطعتها المياه في الصخور .وترتبط الشيشان وجورجيا بعدة روافد للأودية، منها وادي بنكيسي الخانقي .والوادي مثار صراع ساخن حاليا بين جورجيا وروسيا بسبب ادعاء الأخيرة اختباء المقاتلين الشيشان فيه .والظروف الطبيعية لهذه الأودية تسمح بوجود تجمعات فردية لا تجدي مواجهتها بالمركبات أو المدرعات؛ وتصبح الوسيلة الوحيدة هي الغارات الجوية . وحينما تعلن قناة التلفاز الروسية NTV أن الطيران الروسي قام ب1200 طلعة جوية خلال الأسبوع الأخير، وأسقط خلالها نحو 160 طنדָا من المتفجرات، وتم دعم قوات حرس الحدود ب 500 جندي إضافي - فمن المؤكد أنه قد تبادر إلى ذهنك أن هناك " جيشاً شيشانياً " في وادي بنكيسي، بينما هم لا يزيدون حسب الإعلام الروسي نفسه - عن بضع عشرات من المقاتلين . وواقع الأمر أن مشكلة وادي بنكيسي لم تبدأ اليوم، بل بدأت بعيد حرب الشيشان الثانية ) ) 1999 ، وتدفق الآلاف من اللاجئتين الشيشان على جورجيا، وحط جزء منهم في وادي بنكيسي .وقد طالبت روسيا بتسليم هؤلاء إليها؛ لأن من بينهم مقاتلين من الشيشان والعرب .أما جورجيا فأصرّت على أن واجبها أن تتعامل مع هؤلاء كلاجئين فروا من الحرب؛ ومن ثم فلن تسلم روسيا لاجئاً واحداً ما لم تقدم أدلة دامغة على تورطه في أعمال إرهابية . ومع عجزها عن تقديم تفسير لمواطنيها عن توالي الخسائر الفادحة التي يتلقاها الجيش على يد المقاتلين الشيشان، تحججت روسيا بأن جورجيا تدعم الإرهابيين؛ ولهذا أكثر من هدف : الأول تخفيف النقد الموجه إلى الحكومة من قبل الشعب الذي يسقط أبناؤه في مستنقع دام في الجنوب، ويتهرب بعضهم من أداء الخدمة للرعب من المصير المحتوم الذي ينتظرهم في القوقاز؛ والثاني تصريف جزء من الغيظ تجاه جورجيا التي يحلو للبعض في روسيا تسميتها " بإسرائيل القوقاز " ، وتجاه رئيسها إدوارد شيفرنادزه الذي تسميه بعض وسائل الإعلام " برجل أمريكا في القوقاز " . وواقع الأمر أن المتابع لتعاطي الإعلام الروسي مع الحركات الانفصالية في القوقاز يجد في غير مرة اللجوء إلى الفكر التآمري كخط دفاع ذاتي .وجزء من هذا الفكر اتهام بعض الدول العربية والإسلامية " بتصدير " الإسلاميين إلى أراضيها للمشاركة في " الجهاد " لتفكيك الاتحاد الروسي، وإقامة " دولة القوقاز الإسلامية " .والحلقة الثانية في هذا الفكر هي القول بدعم الجار اللصيق " جورجيا " للانفصاليين الشيشان ودعمهم بأسلحة مضادة للطائرات، نجحت في إسقاط المروحيات التي تقل جنرالات وكبار ضباط الجيش الروسي .وفى مواضع أخرى تشار أصابع الاتهام إلى أذربيجان الملاصقة لداغستان الروسية والمتحالفة إستراتيجياً مع الولاياتالمتحدة .أما الولاياتالمتحدة ورغم تقاربها مؤخراً مع روسيا - فبدونها لا تكتمل حلقات " المؤامرة " في القوقاز . إسرائيل مثل روسيا الأعلى ! بين الحمائم والصقور مرّ الأسبوع الأخير في روسيا، متأرجحاً بين التوجه إلى الأممالمتحدة بطلب تشكيل لجان للتعاون الدولي لإقرار الأمن في جورجيا، أو مطالبة بعض الكتاب ورجال الساسة بضرورة توجيه ضربة قوية إلى وادي بنكيسي، بغض النظر عن انتهاك الأجواء الجورجية، طالما أن ذلك يمس الأمن القومي الروسي . " إنني لا أرى ما يثير الاستغراب حينما أنادي بأن ننهج نهج إسرائيل التي لا تنتظر حلول المصيبة في دارها، بل تخرج إلى حيث الخطر وتقضي عليه قبل أن يتحرك، وذلك بفضل ضرباتها الوقائية التي تعرف بدقة أين يختبئ الإرهابيون " ..كانت هذه كلمات سيرجى ميرونوف الناطق باسم مجلس الفيدرالية الروسية ( حسبما نقلته صحيفة جازيتا رو الروسية بتاريخ ) 2002 - 8 - 5 ، واعتبر بعض المراقبين في جورجيا أن كلمات ميرونوف المقرب من الرئيس فلاديمير بوتين - بمثابة إنذار مباشر لجورجيا كي تراجع نفسها . ويبدو أن الإستراتيجية الإسرائيلية - بنقل المعركة إلى أرض العدو - تثير إعجاب الروس منذ تكون الاتحاد الروسي .فلم تكن روسيا السوفيتية بحاجة إلى تلك النظرية التي يتبناها من لهم مساحة صغيرة من الأرض مثل الكيان الصهيوني .أما الآن ومنذ أن اشتعل الجنوب الروسي واختلطت فيه عوامل خارجية شائكة - فقد بات النهج الإسرائيلي في القضاء على التنظيمات " الإرهابية " ( وآخرها ما تم في جنين ) النموذج الواجب اتباعه لمقاومة الحركات الانفصالية على الحدود الجورجية . سام- الإخوة الأعداء والعم جزء أساسي من العلاقات السيئة بين البلدين - كما يؤكد على ذلك محللون جورجيون - يكمن في عدم اقتناع روسيا ( بعد مرور أكثر من عقد من الزمان ) بسيادة جورجيا .بينما يرى مفكرون روس أن كل المشكلات التي تواجهها روسيا في القوقاز سببها القيادة الجورجية التي فتحت الباب على مصارعه أمام التوغل الأمريكي .وحين يرفع البعض مقولة : " إن رائحة النفط " هي التي تحرك السياسية الجورجية - الأمريكية المعادية لروسيا، فإن بعض المحللين الروس ينظرون بتوجس إلى العلاقات الجورجية - الأوربية التي بدأت منذ مطلع التسعينيات بطرح مشروع التراسيسا TRASECA لربط جورجيا تجاريا بأوربا . زد على ذلك المطالبة المستمرة من قبل جورجيا بخروج القوات الروسية من أراضيها ( والتي تتخذ شكل قوات حفظ سلام في أبخازيا ) .وقد يبدو للبعض مستغرباً، حينما يعلم أن روسيا أصرت - بعد استقلال جورجيا - على الاحتفاظ بقوات مسلحة على الحدود الجورجية - التركية رغم عدم وجود أي خطوط تماس روسية - تركية في هذه المنطقة؛ وذلك تحت دعوى ضمان الأمن والاستقرار في الإقليم .ويشعر الجورجيون تجاه هذا بالانتقاص من حقهم في حماية حدودهم التي لا شأن لروسيا بها .ويعلق أحد السياسيين الروس المعتدلين على ذلك بالقول : " بالفعل يبدو من الصعب قبول القومية الجورجية المشهورة بافتخارها بالوعي والحس القومي بوجود قوات دولة أخرى تحمي حدودها " . وعلى الجانب الآخر، بلغ الصبر مداه لدى الجورجيين من تسلط " الأخ الأكبر " .ففي منتصف شهر يوليو 2002 اجتمعت لجان وزارتي الداخلية الروسية والجورجية في العاصمة تبليس لمحاولة إقناع الجانب الجورجى بقيام القوات الروسية بضرب المقاتلين " الشيشان والعرب " المتحصنين في وادي بنكيسي .وحينما رفضت جورجيا الطلب الروسي، واعتبرت أن ذلك بمثابة انتهاك لسيادة جورجيا، أطلقت روسيا أبواق إعلامها بالتشكيك في القدرات الجورجية غير المؤهلة للحفاظ على وحدة أراضيها، في تلميح جارح إلى الوضع في أبخازيا الساعية إلى الانفصال عن جورجيا . وعلى الطريقة العربية ينادي بعض القوميين في روسيا بضرورة الرد على جورجيا بطرد مواطنيها الذين يعملون في روسيا ويضيعون فرص عمل على الروس .ومنهم من يرى أن ذلك سيمثل عقاباً للاقتصاد الجورجي الذي يعتمد على تحويل مدخرات العاملين في روسيا . ومن جانبها، تحاول جورجيا تفويت الفرصة على روسيا باعتقال شيشانيين ومحاكمتهم أمام محاكم جورجية .وأعلن مسؤولون روس أنه " سنرى كيف ستتعامل جورجيا مع هؤلاء الإرهابيين " ، في تلميح خفي إلى أنها قد تتغاضى عنهم؛ وهو ما سيصنف جورجيا حسب المعايير الروسية على الأقل - كدولة راعية للإرهاب . ولكن فيما بعد، وصل وفد من الكونجرس الأمريكي للاطلاع على الوضع في وادي بنكيسي .وأعرب أعضاء الكونجرس عن تقديرهم للجهود التي تبذلها جورجيا لمكافحة الإرهاب وللمحافظة على وحدة أراضيها في ذات الوقت .وهكذا ضيع التحالف الجورجى - الأمريكي الفرصة على روسيا من وضع جورجيا في خندق واحد مع دول القائمة السوداء .ونجح شيفرنادزه في الاحتماء من روسيا بمن هو أقوى .وبدبلوماسية المحنك ( بتاريخه الطويل كوزير خارجية الاتحاد السوفيتي سابقاً ) أعلن شيفرنادزه أن على روسيا أن تمهلنا حتى فصل الخريف الذي ما إن سيأتي إلا وستكون جورجيا قد حلت المشكلة نهائياً . البيوت الزجاجية يبدو أن الحكمة القائلة بأنه " إذا كنت تعيش في سلامة وأمن، فصلِّ لجيرانك بأن يمنحهم الله السكون " حكمة غائبة عن الحوار الروسي - الجورجى .فوسائل الإعلام لا تمل من الحديث عن " طلب أبخازيا " الانضمام إلى روسيا، بل واحتمال اعتراف روسيا باستقلالها كدولة ( وهي التي لم يعترف بها أحد منذ أوائل التسعينيات ) .فأبخازيا الجورجية - الواقعة على الحدود مع روسيا - تناظر الشيشان الروسية الواقعة على الحدود مع جورجيا .وقد يبدو لنا أن لسان الحال في جورجيا يقول : ها أنتم دعمتم الأبخاز بالأمس للانفصال عن بلادنا، بل وتدعمون رغبتها في الانضمام إليكم، وقد جاء اليوم لندعم نحن الشيشان . غير أن إمكانات جورجيا السياسية والاقتصادية لا تمكن لها ñ بمفردها - أن تدعم انفصال الشيشان كهدف إستراتيجي، وربما لا يعدو الأمر ممارسات تكتيكية .فحينما تراجع خريطة جورجيا المرفقة فستجد أن لديها أكثر من مشكلة شبيهة بالمشكلة الشيشانية .وهذه المشكلات هي مشكلة أوسيتيا الجنوبية، ومشكلة أبخازيا، ومشكلة أجارا . فأوسيتيا الجنوبية ( والتي تعد امتداداً لأوسيتيا الشمالية الواقعة داخل الحدود الروسية ) يطالب بعض القوميين الروس بضرورة ضمها إلى روسيا للمّ شمل الأوسيت ( على غرار لم شمل الكوريتين ) .ومساحة أوسيتيا الجنوبية تبلغ نحو 4 آلاف كم2، وعدد سكانها 100 ألف نسمة .وتشغل موقعاً شديد الحساسية مع روسيا؛ لوقوعها على خطوط تماس نزعات انفصالية، كالتي لدى الشيشان والأنجوش والأوسيت الشماليين والكارتشييف والقبردين .وتقع أجارا على البحر الأسود على الحدود مع تركيا " الطموحة " ، وتضم ميناء باتومي الحيوي لجورجيا .واستقلالها يعني ضياع جبهة بحرية شديدة الأهمية خاصة لتصدير النفط والغاز من بحر قزوين .ومساحة أجارا تبلغ 3 آلاف كم2، وعدد سكانها يناهز 400 ألف نسمة . أما أبخازيا - التي أعلنت في مطلع التسعينيات استقلالها من جانب واحد، كما فعلت الشيشان - فتقع على الحدود مع روسيا ( غير المستوعبة بعد لضياع الإمبراطورية ) وتضم ميناء سوخومي الحيوي لجورجيا .وتبغ مساحة أبخازيا نحو 9 آلاف كم2، وعدد سكانها يفوق نصف مليون نسمة ) 550 ألف ) . وإجمالي مساحة الجمهوريات الثلاث تعادل ما نسبته ٪23 من إجمالي مساحة جورجيا .وهكذا فإن روسيا حينما تفكر في دعم انفصال أبخازيا ( ناهيك عن أوسيتيا الجنوبية ) ، فإن ذلك يعني ضياع ٪13 من مساحة جورجيا، بينما إذا فكرت جورجيا في دعم استقلال الشيشان فلا يضيع من إجمالي الأراضي الروسية حينئذٍ سوى ٪0٫1 ، مع تساوي الأهمية الجغرافية السياسية للشيشان وأبخازيا ..وهكذا فإن ملخص العلاقة الروسية - الجورجية يحتم علينا القول : " إن من كان بيته من زجاج؛ فواجب عليه أن يسلم الجيران من لسانه ويده " . خبير في الشؤون الروسية