منذ سنوات قليلة حكت لي إحدى الصديقات موقفاً طريفاً، حصل مع احدى قريباتها من كبيرات السن عندما كانت هي وأمها معها في جنيف، وكانتا تجلسان معاً في إحدى الحدائق، عندما قامت المرأة برمي علبة العصير التي في يدها مع ما تبقى فيها على الأرض، دون أي اهتمام، أو عناية بمن حولها، أو حتى التفاتة. تقول صديقتي، كنت لحظتها مستمتعة بالنظر لمن حولي، وبالطبيعة التي تحضن كل الأشياء، حتى فوجئت بهجوم نسائي عجائزي لامرأتين، توقفتا على وجه السرعة أمام قريبتنا، وأمطرتاها بوابل من التقريع، والسخرية، خصوصاً وأنها كانت بعباءتها، لم تفهم المرأة أي شيء، بل قالت: وإيش فيه؟ عسى ما شر؟ حاولت الاعتذار منهما على ما بدر منها من رمي العلبة وقذفها بعصيرها على الأرض العشبية لكن كانت نيران المرأتين مستعرة، بعد أن رفعتا العلبة ووضعتاها في مكانها المناسب. غادرتا بعد فاصل من التأنيب، والاعتذار المكثف من قبلي، واستيعاب ما قالته إحداهن، بأن علينا احترام أنظمة هذا البلد، وانه إذا كنا لا أنظمة لدينا في بلداننا فهذا شأننا، لكن يجب أن نحترم نظافة ونظام البلد الذي نأتي إليه. حاولت أن أشرح لقريبتي الأمر، امتعضت كثيراً، واعتبرت أن هؤلاء الناس "فاضيين، ومهولين الأمور" والدعوة كلها علبة وارتمت على الأرض وخير يا طير. تذكرت هذه الحكاية وأنا أقرأ (عن تطبيق قانون جديد في تشيكيا من بداية هذا الشهر، مسنوداً من البرلمان بعد إقراره ينص على امكانية فرض غرامات مالية كبيرة تصل إلى ثلاثين ألف كورون تشيكي أي ما يعادل حوالي ألفي دولار بحق من يتم ضبطه من التشيكيين والأجانب وهو يرمي أعقاب سجائر أو علكة مضغ في شوارع العاصمة براغ). هذه العقوبات المالية تأتي امتداداً للغرامات التي بدأت تفرض على المدخنين في كثير من دول العالم في أماكن معينة، وهي غرامات قابلة للزيادة، لو تكررت من نفس الشخص. المهم أنها غرامات فعلية، تجعل من أي قانون ينفذ بفعالية، وليس على الورق. ولذلك ظلت مدنهم نظيفة، وقوانينهم تستحق الاحترام لأنها تسري على الجميع. لدينا كم ستجني الشرطة من قانون غرامات المملكة؟ كم سيدفع من اعتادوا الاستمتاع برميها على الأرض؟ وكم سيفرح المتضررون وهم يدوسون عليها ويلتصقون احياناً بأقدامهم فيها؟ كم ستنظف الشوارع إذا طبقنا هذا القانون من هذا القذف المستشري (للبان) على الإسفلت والأرصفة، وجدران المنازل؟ كم ستكون المرافق نظيفة عندما تطبق الغرامة ولو رمزية مبدئياً؟ وكوارث المملكة تلتصق بالبلاطات وسيراميك الأمكنة النظيفة؟ كم ستجني الدولة إذا طبقت فعلياً غرامات تصل إلى 7500ريال على من يستمتعون بقذف أعقاب السجائر من نافذة السيارة ولا يعنيهم من يحترق أو يموت؟ كم ستربح الدولة من المدخنين إذا نشرت مخبرين سريين في الشوارع يتابعون من يقف على الرصيف، أو في الشارع، أو يخرج من مكان وهو يمارس قمة متعته في سحق عقب سيجارته تحت قدميه أمام المارة، حتى وإن كان الشارع مغسولاً بالصابون؟ كم وكم وكم... (يتبع بعد غد)