صورتان متشابهتان، البشعة منهما تعود إلى تاريخ أسطوري موغل في القدم بمدينة "طيبة" اليونانية، والأبشع تعود إلى يومنا وما تزال قائمة تبحث عمن يطهر الأرض من دنسها. تحكي الأساطير القديمة أن "أوديب" الذي تربى في أسرة ليست هي أسرته دون أن يدري، فظن الرجل أباه والسيدة أمه، هرب من تلك الأسرة على اثر نبوءة قالت إنه سيقتل أباه ويتزوج بأمه، وفي هربه اتجه إلى طيبة، بلده الحقيقي حيث يوجد هناك الأب والأم الفعليان. في الطريق قابل أباه "لايوس"، ولأنه لا يعرفه اشتبك معه في قتال وأرداه قتيلا، وعلى مشارف المدينة واجهه الوحش "أبو الهول" ملقيا لغزه الشهير، غير أن أوديب عرف اللغز فانتحر الوحش وبذلك يكون قد خلص المدينة من خطر أفسد عليها وعلى أهلها الحياة. وحين وصل المدينة كان خبر موت لايوس قد انتشر، ورأى الشيوخ أن يضعوا أوديب مكانه بعد أن أمن المدينة وحقق لها حلمها في حياة مريحة حين قتل الوحش، وورثوه كل ما كان ل "لايوس" بما في ذلك الزوجة، التي هي الأم الحقيقية لأوديب وهو لا يعرف. في المسرحية التي عالجت هذه الأسطورة وصف لحياة بشعة أصبحت تعيشها المدينة وقد نزل بها بلاء أتى على الزرع والضرع. كانت المدينة تعيش حياة رغدة، وفجأة نضبت الينابيع أو تسممت، وعجزت الأرض عن أن تخرج نبتة، ونفقت الأغنام، وجفت ضروع الماشية العجفاء، وماتت الأجنة في بطون النساء، ونخر الوهن في أجسام الرجال، وتشوهت الملامح، وسقط الشعر عن رؤوس النساء والرجال، كأن موتا بطيئا قد أطلق في المدينة يقضي عليها عل مهل. أهل العلم وشيوخ المدينة بذلوا غاية جهودهم لمعرفة أسباب هذا الموت البطيء الذي يقوض المدينة، وعرفوا أنه "غضب السماء" عليهم وعلى الأرض، لأن هناك دنسا بشعا تجسد في رجل، يعيش بين الناس فيدنسهم، ويمشي على الأرض فينزع عنها طهارتها، ومن خلال تداعيات كثيرة يتبين أن أوديب الذي دخل المدينة حاملا كل وعود الأمن والسلامة ورفاهية العيش هو ذلك الدنس، بعد أن قتل أباه وتزوج بأمه وأنجب من هم أبناؤه واخوته في نفس الوقت. وحين علم أوديب أنه سبب البلاء فقأ عينيه حتى لا يرى بشاعة جرمه، وانطلق إلى الجبال بعيدا لتعود إلى الأرض طهارتها، بينما انتحرت الزوجة الأم. الصورة الثانية قرأت تفاصيلها في صحيفة الوطن السعودية (عدد الأحد الماضي)، في تحقيق عن قرية "البديعة" بمنطقة القصيم، تلك القرية التي كان أهلها ينعمون برغد العيش وصفو الحياة وزهوها قبل أحد عشر عاما مضت، كما يقول التحقيق، والتي أصبحت اليوم تعيش حياة مطابقة للحياة في طيبة الأسطورية بعد أن حل بها الدنس، تموت الأجنة في البطون، ويسقط الشعر عن رؤوس الرجال والنساء، وتنفق الماشية، وكفت الأرض عن إخراج النبت، والسبب لا يكاد يختلف، ففوق الأرض هناك "دنس" معادل لدنس أوديب، تمثل في شركة أجنبية جاءت إلى القرية بوعود - كوعود أوديب - بحياة رغدة للتنقيب عن الذهب فيها، والطيبون من أهل القرية قالوا تلك نعمة الله التي أودعها بطن أرضنا، ليس البترول وحده، وإنما الذهب كذلك. تسربت من الشركة مواد كيميائية سامة كالزئبق والزرنيخ والرصاص والسلينيوم وغيرها كثيرة، اختلطت بمياه الشرب وماء الري لتقضي على الحياة في القرية بدلا من أن تنقلها إلى مواقع الأحلام والوعود. الخبراء الأجانب لا ينكرون معرفتهم بالأسباب، ولا يعفيهم أنهم حذروا الناس من المياه بل يدينهم أكثر، والموقف كله غريب، لأن استخراج الذهب بالأساس دافعه هو صالح المواطن، فإذا تبين أنه ضد حياته ووجوده لماذا يبقى؟ دخول هذه الشركة إلى البديعة لا يختلف عن دخول أوديب إلى طيبة، دنس وان اختلف في النوع واتفق في النتيجة، لكن أوديب استخدم ما تبقى فيه من إنسانية وفقأ عينيه، فهل يكون مدير الشركة على قدر مماثل من الإنسانية ليفقأ عينيه حتى لا يرى بشاعة جرمه؟، والوباء قد زال عن طيبة حين خرج منها سبب الدنس، فمن يزيح عن البديعة سببا مماثلا لتعود للأرض طهارتها وللناس أمنهم وسلامتهم؟