هاجس الرحيل شيء مطبوع في شخصية الإنسان العربي، وشيء من تكوينه، فالعربي بعامة، لا يعرف الاستقرار ولا يركن إليه ولا يرغب فيه. كان يموج داخل الجزيرة العربية كما تموج الرياح وحبات الرمل... فالصحراء وقبّة السماء هما خيمته الرحبة التي يمارس داخلها حركة الكفاح، والمطاردة والنسغ الوجودي. أمداء الصحراء علمته الحرية، وخصاصة العيش علمته كيف يلوب في صحرائه كذئب، فرأس حصانه حربة يشق بها الفجاج، أما حربة سنانه فيشك بها قلب الخوف، فهي ملجؤه الذي يجد في ظلاله الأمان... في الليل يشعل شمعة شعره من قناديل السماء، وفي النهار تشتعل في داخله هموم وهواجس العيش، مستنجدا، أو ناجداً، غازياً أو مغزواً.. فهو مشمر أبداً عن ساعد تحمل الرمح وأخرى تشد العنان. وَماَ طالبُ الحاَجاتِ من كُلِّ وجهةِ مِنء النَّاس إلاّ مَنء أجَدَ وشمَّرا فَسِر في بلادِ الله والتمءس الغِنى تَعش ذا يَسَارٍ أو تَموتَ فتُعذرا إنه الرحيل، والسير والتماس الغنى، والركض خلف السحابة، حيث تمطر الماء، وتمرع الأرض، أو هو الموت في سرياليته الجافة.. هذا هو ديدن العربي.. رحيل يجره رحيل.. وسفر يقود إلى سفر. ألم يُسمّ ناقته بالراحلة..؟ أليس الشاعر يمضي نصف القصيدة وصفاً ومدحاً لهذه الناقة..؟ @ وعندما تفجر الإسلام في جزيرة العرب.. خرج العربي من خيمته مندفعاَ متدفقاَ في جسارة وشدة، لا شيء يعيقه، ولا شيء يمنعه، أو يثنيه عن الرحيل، فإن حيل دونه فإنه متكسر باسم الله. وَلمّا رأيتُ الدّرب قَدء حيل دُونَه تكسَّرتُ بِاسمء الله فِيمنء تَكَسرا وكما أن حوافر الخيل تقع على الحوافر، ونصال الفتح تتكسر على النصال فقد كانت اللغة العربية والثقافة العربية هي الأخرى تتدافع أمواجها لتسيل على البقاع وعقول الناس وألسنتهم.. @ ثم أصبح في جزيرة العرب، دولة، وخلافة، وحكومة، يشد الناس إليها الرحال من مواطن كثيرة.. ولكنها حين استقر بها الكفاح، والتأسيس، نازعها هاجس الرحيل..أو هاجس البحث عن الماء والكلأ.. فنزحت إلى الشام وإلى بغداد واستمر مرير الرحيل وهاجرت طيور الشعر تغشى منازل الخلفاء هناك.. حيث تنشط حياة العيش، وحياة الثقافة... ومع تتابع الأيام.. خفت صوت الشعر في أرض الجزيرة.. أو ظل صويتاً خفيضاً يشبه الأنين، ما لبث أن اختفى، وتاه في مجاهلها . وأسدل الستار على مسرح الضجيج في جزيرة العرب. فانقطع صوت الفرسان وصوت الحياة عن مسمع التاريخ كما انقطع صوت الشعر. ولم يبق شيء عن جزيرة العرب إلا ذلك الحنين الوجداني في نفوس الراحلين حيث ظلت صورة جمالية في ذاكرة الشعر يترنم بها الشعراء ويتلذذون بذكرها: أَحنّ إلى أرض الحِجاز وَغَايتي خيامٌ بنجد دونها الطرءفُ يقصرُ أو كقول الآخر: سرَى البرقُ من نجد فهيّج تذكاري عهوداً بحَزَوى والعُذيبِ وذي قارِ أيَا جيرة بالمأزمينِ خيامُهم عليكم سلامُ الله من نَازح الدَارِ @ وظلت جزيرة العرب نسياَ منسياَ.. وظل إنسانها أيضا نسياَ منسياَ بعيداَ عن ساحة الحدث، واهتمام الدولة. إلا عندما تستدعي الحاجة، أو يشتد الخطب فإنه يلبي النداء ويخرج كمن انشقت عنه الأرض. بَعيدٌ عنءكء ما استَغنَيتَ عنهُ وطلاَّعُ إليَكَ مع الخُطوبِ هكذا كانت حال ابن الجزيرة العربية في ذاكرة الدولة، وفي ذاكرة الحدث وذاكرة الثقافة، ولكن هل مات الشعر هناك؟ لا .. لقد وهنت اللغة والثقافة، هذه حقيقة. أما الشعر فظل حياَ نابضاً مورقاً، لأن الشعر في جزيرة العرب لا يموت!! فكما أن قدر هذه الأرض أن تنبت بالشيح، والخزامى، والنفل وتهب منها ريح الصبا، وينبت في أرضها النخل، فإن قدرها أيضاً أن تنبت بالشعر، ولهذا فابن الجزيرة يولد وفي فمه قصيدة. فدم ابن الجزيرة مصبوغ بالشعر، طينته مكوية بالشعر، فخلق شاعراً بالفطرة، ينوح بداخله وجدان مشبوب، وحنين مبهم، فتأخذه تلك الإغفاءات المسحورة إلى عالم الصحراء المدهش، إلى أصائل القرى، وشموس الحقول، وأغاني الرعاة، وأهازيج السمّار، فيتوثب بداخله قلب مستوفز كطائر فزع، فلا يُسكت ذلك الفزع إلا رقية الشعر.!! إن شموس الجزيرة، وإصباحها البكر، ولياليها المقمرة، وإيقاع الريح في أوديتها، لهي إلهامات عجيبة تجعل من إنسانها فنانا بالفطرة... وهذا ماجعل الروح الشعرية لا تموت هناك ولا تنضب بل ظلت حية مستيقظة، إلا أنها كانت مواكبة للحياة العقلية، والثقافية، والاجتماعية، تتشكل بشكلها وتصطبغ بصبغتها . فهي إن ظلت محافظة على بدويتها خيالاً وتعبيراً قومياً، فإنها لم تكن محافظة على زيها الرسمي الفصيح، فبسبب إهمال الجزيرة وبعدها عن الحياة العامة أو عن أسباب العلم، ومناهل المعرفة ضعفت عقليتها الثقافية. واستشرت العامية الأمية، فأفسد اللحن القصيدة، وتحولت عبقرية اللغة المتفوقة إلى لغة واهنة، وإلى لهجات ضعيفة، وهذا ما أفقد القصيدة خلودها القومي وصبغها بصبغة إقليمية ضيقة، ففسد ذوق القصيدة العام، وتهابط إيقاعها اللغوي، وإيقاعها الجمالي، ومن ثم فإن الشعرية العربية بمفهومها الواسع قد تلاشت، وذابت في التكوينات الإقليمية الثقافية والاجتماعية التي شكلتها الظروف السياسية، أو الجغرافية وصارت بمعزل عن الثقافة الشاملة للأمة، وأصبحت القصائد في معظمها أناشيد وأشعاراً فلكلورية، وهذا ما جعل اللغة الفصيحة ترحل من الجزيرة العربية، وتذهب إلى فضاءات وأماكن أخرى في الوطن العربي تقوى حيناً وتضعف حيناً وفق الوسط، والمكان، والمناخ الثقافي الذي تعيش فيه.. وظلت اللغة الفصيحة والقصيدة الفصيحة في الجزيرة العربية آنذاك، طريدة ومقصية من قبل القصيدة الأمية، واللغة الأمية التي استشرت، وتجذرت حتى أصبح صوتها إلى اليوم - رغم بعض محاولات الإحياء - هو الأقوى، وهو الأكثر حضورا متمثلاً في هذا الحضور الأهوج للشعر الأمي، أو الشعبي والذي اعتلى خشبة المسرح في خنوع واستسلام وربما ترحيب من قبل بعض النقاد والمثقفين، وهذا نذير شؤم على الثقافة الأصيلة.. واللغة الأصيلة، بل هو نذير برحيلهما رحيلاً تاماً.. وللحديث بقية.