"بلاك هات" الرياض ... ابتكاراتٌ لخير البشرية    "الإحصاء" تنشر إحصاءات استهلاك الطاقة الكهربائية للقطاع السكني لعام 2023م    استقرار أسعار الذهب عند 2625.48 دولارًا للأوقية    الطائرة الإغاثية السعودية ال 24 تصل إلى لبنان    الفرصة لاتزال مهيأة لهطول الأمطار على معظم مناطق المملكة    حقوق المرأة في المملكة تؤكدها الشريعة الإسلامية ويحفظها النظام    سجن سعد الصغير 3 سنوات    تحديات تواجه طالبات ذوي الإعاقة    حرفية سعودية    تحدي NASA بجوائز 3 ملايين دولار    ظهور « تاريخي» لسعود عبدالحميد في الدوري الإيطالي    رئيسة (WAIPA): رؤية 2030 نموذج يحتذى لتحقيق التنمية    سعود بن مشعل يشهد حفل "المساحة الجيولوجية" بمناسبة مرور 25 عامًا    «الاستثمار العالمي»: المستثمرون الدوليون تضاعفوا 10 مرات    أمطار على مكة وجدة.. «الأرصاد» ل«عكاظ»: تعليق الدراسة من اختصاص «التعليم»    «التعليم»: حظر استخدام الهواتف المحمولة بمدارس التعليم العام    قيود الامتياز التجاري تقفز 866 % خلال 3 سنوات    السد والهلال.. «تحدي الكبار»    فصل التوائم.. أطفال سفراء    في الشباك    بايرن وسان جيرمان في مهمة لا تقبل القسمة على اثنين    النصر يتغلب على الغرافة بثلاثية في نخبة آسيا    قمة مرتقبة تجمع الأهلي والهلال .. في الجولة السادسة من ممتاز الطائرة    وزير الخارجية يشارك في الاجتماع الرباعي بشأن السودان    محمد بن راشد الخثلان ورسالته الأخيرة    مملكتنا نحو بيئة أكثر استدامة    ضاحية بيروت.. دمار شامل    من أجل خير البشرية    وفد من مقاطعة شينجيانغ الصينية للتواصل الثقافي يزور «الرياض»    ألوان الطيف    الكرامة الوطنية.. استراتيجيات الرد على الإساءات    «بنان».. جسر بين الماضي والمستقبل    حكايات تُروى لإرث يبقى    جائزة القلم الذهبي تحقق رقماً قياسياً عالمياً بمشاركات من 49 دولة    نائب أمير الشرقية يكرم الفائزين من القطاع الصحي الخاص بجائزة أميز    نيوم يختبر قدراته أمام الباطن.. والعدالة يلاقي الجندل    الأمير محمد بن سلمان يعزّي ولي عهد الكويت في وفاة الشيخ محمد عبدالعزيز الصباح    كلنا يا سيادة الرئيس!    الدكتور ضاري    التظاهر بإمتلاك العادات    مجرد تجارب.. شخصية..!!    كن مرناً تكسب أكثر    القتال على عدة جبهات    نوافذ للحياة    زاروا المسجد النبوي ووصلوا إلى مكة المكرمة.. ضيوف برنامج خادم الحرمين يشكرون القيادة    الرئيس العام ل"هيئة الأمر بالمعروف" يستقبل المستشار برئاسة أمن الدولة    معارك أم درمان تفضح صراع الجنرالات    ما قلته وما لم أقله لضيفنا    5 حقائق من الضروري أن يعرفها الجميع عن التدخين    «مانشينيل».. أخطر شجرة في العالم    التوصل لعلاج فيروسي للسرطان    استعراض السيرة النبوية أمام ضيوف الملك    محافظ صبيا يرأس اجتماع المجلس المحلي في دورته الثانية للعام ١٤٤٦ه    أمير الشرقية يستقبل منتسبي «إبصر» ورئيس «ترميم»    أمير الرياض ونائبه يؤديان صلاة الميت على الأمير ناصر بن سعود بن ناصر وسارة آل الشيخ    أمير منطقة تبوك يستقبل القنصل الكوري    الأرصاد: انخفاض ملموس في درجات الحرارة على أجزاء من شمال ووسط المملكة    الإنجاز الأهم وزهو التكريم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



سِيرةٌ للموت.. سِيرةٌ للحياة
نشر في الرياض يوم 25 - 12 - 2008

صدر كتاب "المواسم" لغازي القصيبيّ عام 1427ه=2006م، وحين صدر هذا الكتاب -وإنء شئتَ الدِّقّة فهو كُتَيِّب- لم يحتفلء به القرّاء والكتّاب والنّقّاد، كعادة هؤلاء مع ما يُصءدره القصيبيّ منء دواوين وكتب، ولا أعرف سببًا لذلك الجفاء الذي قوبل به الكتاب! أيرجع إلى دار النَّشءر الصّغيرة التي نشرتءه دون أن يكون لها تاريخ عريق في النَّشر، ودون أنء تعرض الكتاب على النّاس في المكتبات والمعارض؟ أمء لسبب آخر لا ندريه.
حدّد القصيبيّ نوع كتابه، فهو، كما يُفءصح الغلاف، "مقالة". ومنء شأن هذا النّوع أن يحدِّد ميثاق القراءة بين الكتاب والقارئ. ف"المواسم"، إذنء، "مقالة"، وهو مقالة مفردة، وإلا لنصّ على صيغة الجمع "مقالات". ويحتلّ قلبَ الغلاف رسءمٌ لمنزل قديم، يظءهر أنّ يدَ الدّهر أصابتءه، فتهدّمتء بعض أركانه، وأصاب الفَناء أجزاء أخرى منه، ونطالع في وسط البيت شجرة "الكينا" شامخة وشاحبة معًا، وقبل أنء يبذل القارئ، إنء كان يعنيه جامع ما بين الكتاب -أيّ كتاب- وصورة الغلاف، نعرف من الغلاف الباطنيّ أنّ هذا الصّورة إنّما هي للفِناء الدّاخليّ للبيت الذي سكنته أسرة القصيبيّ في الرّفاع، في البحرين، وأنّ هذه الصورة تعود إلى الخمسينيّات الميلاديّة من القرن الماضي، أيء سبعينيّات القرن الهجريّ المنصرم.
وقبل أنء يجهد القارئ نفسه ليربط ما بين الرّسءم القديم وموضوع كتاب، حدَّد كاتبه نوعه بأنّه "مقالة"، يقرأ القارئ ما يَحُول بينه وبين نوع "المقالة"، وإذا به، وإنء شِئتُ دِقّة فإذا بي إزاء كتاب في "السِّيرة الذّاتيّة"، فساغ لي أنء أقرأه، وفي البال، نوعه المستخفي، وإنء خالفءتُ، في ذلك، ما سكّه المؤلِّف، وهو صاحب الحقّ، نوعًا لكتابه.
وإذء يفعل غازي القصيبيّ بكتابه هذا الفعل، فليس بالأمر الهيِّن، فالرّجُل من الثّقافة والخبرة بالأنواع الأدبيّة ما يدفع عنه تهمة الجهل بالنّوع الأدبيّ، فهو الشّاعر والرِّوائيّ والنّاقد والمترجِم، وهو القارئ باللِّسانين العربيّ والإنكليزيّ، والقارئ النَّهِم الذي لا تفوته معرفة بهذه القضايا، كما أنّه يعرف للنّوع الأدبيّ، أيًّا كان، موقعه في القراءة، وخطره في التّأويل.
والأقرب إلى الظّنّ أنّ غازي القصيبيّ إنّما أراد بتحديد "المقالة" نوعًا لكتابه "المواسم" غير ما يعنيه النّوع الأدبيّ ذو الحدود والرّسوم، والذي يعرف نَقَدَة الكلام جانبًا منء تاريخه، وأمثلة منء أعلامه وروّاده، ف"المقالة"، ها هنا، ترتدّ إلى أصلها اللّغويّ، فكلّ حدث في اللّغة، حديثًا أو كتابةً، إنّما هو "قول"، يحمل في داخله "مقالة" يسوقها إلى المستمع أو القارئ دُفعةً واحدة، ولعلّ ذلك أدعى أن يُخرج غازي القصيبيّ كتابه هذا في قالَب واحد، منء بُدَاءته إلى نهايته، دونما عنوان يستوقفك، أوء علامة تفصل ما بين فقرة وأخرى، وكأنّه أراد منء قارئه أن يقرأه دُفعة واحدة، منء ألفه إلى يائه.
غير أنّ هذه الحِيءلة الفنِّيّة لم تَجُزء على المكتبة الوطنيّة التي صنَّفتِ الكتابَ، فالتّصنيف المطبوع على الصّفحة الثّانية وضع الكتاب في نوعه الأصيل من الكتابة، فهو كتاب "تراجِم"، ويعرف القارئ اللّبيب أنّ "التَّراجم" هي الاسم العربيّ القديم لما نعرفه، الآن، "سِيرةً ذاتيّة".
ولكنّ العَقءد، في الشّريعة والقانون، شريعة المتعاقدين، وكذلك "ميثاق القراءة" شريعة القراءة الأدبيّة، فالكاتب أراد كتابه "مقالة"، فما بالنا نريده "سِيرة ذاتيّة"، والذي أظنّه أنء لا بأس مطلقاً في هذه التّوطئة التي يسمِّيها نَقَدَة الأدب ب"العَتَبَة" التي "تُعَتِّب" إلى الكتاب، وتوجِّه الكِتَاب والقارئ والقراءة إلى حيث تريد، والكتاب، كما يقول المثل الشّائع، "يُقءرَأ من عُنءوانه"، والعنوان صحيح، فهل ستكون القراءة صحيحة؟
السِّيرة الذّاتيّة، في العُرءف الأدبيّ، نصّ نثريّ استعاديّ، يستعيد به الكاتب حياته الماضية، ولا بدّ منء تطابق ما بين الكاتب والشّخصيّة، ذلك التّطابق الذي يَحُول دون الشُّبءهة أو الظّنّ، ولا بدّ لهذا النّوع حتّى يصبح "سِيرة ذاتيّة" من الإعلان عنه، قصءدًا، على صفحة الغلاف، إذء لا مجال، هنا، للمواربة أو الظّنّ، وإلا يكنء ذلك، فالباب واسع ومنفسح لألوان من التّأويل والتّعليل، أَسِيرة ذاتيّة هذا الأثر أمء رواية أمء ماذا؟
ولا تظُنَّنَّ ذلك شقشقة نقديّة، فالاسم أصل أصيل في الوجود، وأنتَ إذء ترى وافدًا جديدًا في العِلءم والاختراع، لا يكفيك منه ما ينهض به، ولكنّك تستميت لتعرف اسمه، فَقِسء على ذلك "النّوع" ورتبته في النّظريّة الأدبيّة، فلكلّ نصّ أدبيّ شجرة ينتسب إليها، ويعءتَزي إليها، ويغتذي منها، فهي أصله وفصله، والنّوع هو سبيلنا إلى قراءة الأثر الأدبيّ ومفتاحنا إليه.
ولكن ما لنا نبحث عنء "نقاء" مزعوم للأنواع الأدبيّة؟ ومتى كان النّوع الأدبيّ خالصاً لنفسه. إنّ تاريخ الأنواع الأدبيّة ينفي هذا الزّعم، ففي السِّيرة الذَّاتيّة من الرِّواية والمذكِّرات والسِّيرة والمسرحيّة والمقالة والشِّعءر، كذلك، نسب وصِهءر، بلء عسى أنء تكون السِّيرة الذّاتيّة تجسيدًا للشِّعءر الخالص، فهي تمتَح من "الحقيقة" ومن "الشِّعءر" معاً، عرف ذلك آباؤها الكبار، وساغ أن يتّخذ الشّاعر الألمانيّ الكبير غوته "الشِّعءر والحقيقة" عنوانًا لسِيرته الذّاتيّة الشّهيرة، إلماحًا إلى ذلك الأصل الأصيل المستكنّ فيها.
والشّائق أنّ السِّيرة الذّاتيّة، وإنء نهضتء على "الاستعارة" من الأنواع الأدبيّة الأخرى، فإنّها، فيما يقرِّر جورج ماي في كتابه "السِّيرة الذّاتيّة"، قدء جعلتء تلكم الأنواع "تستلهم منها. فليس منء شكّ في أنّ رواية الطّفولة، على سبيل المثال، تَدِين، كثيرًا، لكتب الاعترافات الأولى". (ص 209) وهلء يخافٍ علينا سطوة السِّيرة الذَّاتيّة، في العصر الحاضر، على الرِّواية والشِّعءر، حتّى بات مُعَادًا منء قولنا مكرورًا أنء نقرأ "رواية السِّيرة الذَّاتيّة"، وأنء نتقصَّى أثر السِّيرة الذَّاتيّة في طائفة كبيرة من الآثار الشِّعريّة.
ويكشف "المواسم" منء ذات غازي القصيبيّ ما لا تكشفه قصائده ورواياته، فنحن، هنا، قبالة إنسان آخر لا نعرفه، إنسان منطوٍ على نفسه، فزِع، خائف، مرعوب، يسترضي الموت، هذا الحدث الوجوديّ الرّاعب، الذي يظهر للإنسان قريباً منء شِراك نعله، كما قال الشّاعر القديم، أوء كأنّه الذِّئب الذي يحوم حول فرائسه، فتارة ينقضّ على هذه، وتارة ينقضّ على تلك، وقدء يخلد إلى الرّاحة، حينًا، ثمّ يعاود الكرّة، وليس للإنسان إلا أن ينتظر ساعة حِينه، وهو إذء لا يفعل فإنّه يخادع نفسه، فعسى أن ينجو بنفسه، وما هو بناجٍ، ولكنّه يحتال لها، وهو، إذء يعرف الموت الذي يحوم حواليه، فإنّه لا يعرف إلا موت الآخَرين كما تقرِّر الفلسفة الوجوديّة ذلك.
و"المواسم" فيما انتهيءتُ إليه النّصّ الأدبيّ الفريد الذي كشف غازي القصيبيّ إزاء قارئه، بعيدًا عنء كرسيّ الوزارة وبريق الشّهرة، فإذا به إنسان قريب إلينا، حبيب، ينتحب، وقدء وسَّد حبائبه التّراب، فنبكي لبكائه، ونألم لألمه، وإنّي لأعرف منء نفسي، وقدء قرأتُ "المواسم" غير مرّة، أنّ كتابًا لم يهزَّني بكلتا يديه، ويُبءكِني كما هزّني كتاب "المواسم" وأبكاني. فهذا الكتاب خلاصةٌ لتجربة القصيبيّ في الحياة، وهو، بحقّ، سِيءرةٌ للموت، كما هو سِيءرةٌ للحياة، فكلمات الكتاب تقف بك على قسمات غازي القصيبيّ، تألم لألمه، وتبكي لبكائه، وتعرف منه وجهًا آخَر، لم يألفءه محبّوه وقرّاؤه، وترى الموت، ذلك الحدث الوجوديّ المَهيب، خلءف كلّ كلمة، وفي أثناء كلّ سطر منء سطوره، وكأنّ الموت أضحى "موسمًا" مألوفًا في حياته، فنقرأ الحزن والألم في لغته، كما كنّا نقرؤه، منء قبءلُ، ساخِرًا ضاحكًا.
وليس إلا اللّغة وكلماتها بردًا وسلامًا على الإنسان. وكانتء كلمات اللّغة ملجأ غازي القصيبيّ ومبلغ مأمنه، ينءظمها، مرَّةً، شِعءرًا، ويكتبها، مرَّةً، نثرًا، وكما وجدءناه في قصائده المتأخِّرة في الرِّثاء إِلءف الماضي وخدينه، ألفيناه في هذا الكتاب يصءدر، حينًا بعد حين، عنء مشيئة التّراث ولغته، ف"المواسم" ينطوي على أسلوب لغويّ متفرِّد، في تجربة القصيبيّ الطويلة، وذلك أنّه شاء للغته، أوء شاءتء له لغته، أنء تكون أمتَّ رحِمًا وأقرب وشيجة بالأساليب التّراثيّة، بقِصَرها، وازدواجها.
"ذهب يوسف، كما كان يودّ أن يذهب. بلا مرض مُقءعِد. بدون يأس الشّيخوخة المكءسوّة بالصّقيع. يوسف ابن عمّك وزوج أختك. كان رجلاً جميلاً، إنء جاز هذا التّعبير. كان وسيمًا في مظهره، وكان وسيمًا في طباعه. كان دائم الابتسامة، حاضر الضّحكة، وكان مضيافًا إلى أبعد الحدود. رفعتءه الدّنيا إلى أعلى قممها، ولم يَبءطرء، وقذفتء به منء شاهق، فلم يتذمَّرء، كان بيته مفتوحًا للضّيوف، وكان قلبه مفتوحاً للنّاس، وكان متفائلاً، بعنف. يرى الضّوء في النّفق المختنق بالسّواد. يرى في كلّ نكسة فرصة، وينفق ما في الجيب بثقة مطلقة في الغيب". (ص 13)
ولغازي القصيبيّ مع الموت رحلة طويلة جدًّا، ومنء قرأ شِعره لا تُخءطئ عينه مواقع تلك القصائد التي كان الموت موضوعًا لها، تراها متناثرة ومجتمعة في دواوينه، ولكنّه، وقدء علتء سِنّه، أضحى مستسلمًا للموت، بقسوته ورعبه، فأخرج ديوانًا بكامله ليس له منء موضوع سوى الموت، وكان ديوانه "حديقة الغروب" (1428ه=2007م) مقاربًا لكتابه "المواسم" في الصّدور، وفي كلا الكتابين فَزَعٌ يبلغ حدّ المرض منء وطأة العمر، ووجل عجيب من الموت، غير أنّ "المواسم" كشف المخبَّأ منء نفس القصيبيّ، واستطاع حيث لم تستطع الاستعارات والأخيلة الشِّعريّة، أن يقفنا، وفي مهاد واحد، على الفجيعة والألم اللذين نزلا به، وعصفا بروحه، حين فجعه الموت، وفي مدّة متقاربة، بشقيقته "حياة" وشقيقه "عادل" وأخويه غير الشّقيقين "مصطفى" و"فهد"، وكان موت "حياة" و"عادل" باعثًا لمواسم الحزن وجنائز الموت التي عصفتء بقلب غازي القصيبيّ طفلاً وشابًّا ورجلاً وشيخًا، فإذا بنا إزاء عشرات الأسماء التي استأثر بها الله -تبارك وتعالى- إلى جواره، ممّنء أحبّ القصيبيّ، أُمًّا وأبًا وجدّة وإخوةً وأصهارًا.
وما بين موت وموت تُبءعَث الحياة منء صمت المقابر والجنائز، ويستعيد الكاتب طَرَفًا منء تلك السِّيَر التي لا تلبث أنء تكوِّن "مواسم" الفرح والحزن والموت والحياة، ويشدّ القصيبيّ قارئه معه بين الحاضر والماضي، ومنء موقع إلى آخر، ومنء مدينة إلى مدينة، غير أنّه يَرءجع بقارئه، دوماً، إلى حيث "البيت الكبير" لأسرة القصيبيّ في مدينة "الرّفَاع" البحرينيّة، حيث وَجَدَت الأسرة الكبيرة في ذلك البيت مأوًى ومستقرًّا، بعد نزوحها من "الأحساء"، فكان ذلك البيت، بحقّ، "موسم اللَّذّات"، ثمّ غالتءه النَّوى، واحتفظ بلذيذ الذِّكريات.
وبيت "الرّفَاع" خِزَانة الحكايات التي يرويها غازي القصيبيّ في "المواسم"، منه يَصءدُر وإليه يعود، لم يبقَ من البيت إلا تلك الصّورة التي سكنت الغلاف، ولكنّه يحتلّ من الكتاب الأصل والغاية، ففيه تكوَّنتء "مواسم" الفرح، حيث الطّفولة التي تحتلّ من الكتاب جانبًا عظيمًا، وحيث الأسرة الكبيرة التي حين خرجتء منء ذلك البيت تبدَّدتء وتفرَّقتء في الأرض، فلا جَرَمَ أن يُلِحّ القصيبيّ على استعادة ذلك البيت، وهو إنء لم يستطعء أن يعيده واقعًا وشاهدًا، فلا أقلَّ منء أنء تستردَّه كلماته، وإليه يفزع القصيبيّ، وقدء شاخ وكَلَّ ومَلَّ، طلبًا للطمأنينة والأمن، يهرب منء حاضره الباهت والبارد، إلى حيث الطّفولة بمفرداتها، وغرائبها، وعبثها، وطيشها، ولطالما أنقذته "العودة إلى الأماكن القديمة" من العذاب اليوميّ، والابتسامة المثلَّجة، والملل المحءبط.
وكأنّه، حين يستردّ بيت "الرّفَاع" إنّما يقابل "موسم" الحزن، ب"موسم" الفرح، فحيث يكون الموت تولَد الحياة، ومثلما كان للأحزان "وَسءمها" فللأفراح "وسءمها"، ومنء تلك القصص "الحيّة" التي يبعثها الموت في سرده تتكوَّن "الشّجرة القصيبيّة" التي تشءبه شجرة "الكينا" في بيتهم العتيق التي لم تجفّ جذورها، وظلَّتء خضراء فتِيّة، حتّى وإنء آب ذلك البيت طللاً أوء ما يشبه الطّلَل، ففي كلمات القصيبيّ ترتيلة حنون على تلك الأطلال، فعسى أنء تمنحه شيئًا منء ثباتها، وعسى أنء تُمِدّه بشيءء منء أفراحها، وهو إذء يفعل ذلك إنّما يستنجد بذاكرته، فلعلّها أنء تنجده بما يصرف عنه حزنه وشقاءه، ولطالَما فزع النّاس إلى الذّاكرة يستمطرون غيثها، بحثاً عن السّلامة والسّكِينة، وطلبًا للنِّسءيان، ونجد أثرها في غير سِيءرة، فللذّاكرة سِحرها وبلءسمها. يقول إدوارد سعيد، تعبيرًا عنء سِحءر الذّاكرة:
"لعبتء ذاكرتي دَوءرًا حاسمًا في تمكيني من المقاومة خلال فترات المرض والعلاج والقلق الموهِنة. ففي كلّ يوم تقريباً، وأيضًا، فيما أنا أؤلِّف نصوصاً أخرى، كانتء مواعيدي مع هذه المخطوطة تُمدّني بتماسك وانضباط ممتعين ومتطلَّبين معًا". (خارج المكان، ص 19)
وهذا ما حقّقتءه ذاكرة القصيبيّ، حينما بعثت الحياة منء رحم الموت، ومنحتءه السّعادة وقدء جرّعتءه الألم، فألفى في الماضي هناءه وعزاءه، ومدّتءه تلك الذّاكرة بأملٍ مّا استحقّ منء أجله أن يعيش، وكأنّ حَدَثَ الموت علَّمه الاستبسال منء أجءل الحياة، وهو في كتابه هذا، كما في حياته، يترجَّح ما بين مواسم الحياة والموت، ولكنّه بات في كتبه الأخيرة يتأمّل أثر الموت في جسده وروحه، مستسلِمًا لقضاء الله، ومتصالحًا مع موته هو بعد أنء أدرك موت الآخَرين.
افتتح القصيبيّ كتابه "المواسم" ب"موسم" الحزن والفزع، وهو يستقبل عامه الخامس والسِّتّين، بما يشبه "المرثية" لذلك العمر الذي مضى
'' تسكنك هواجس الرّحيل. تشعر أنّ المسافة بينك وبين نهاية الطّريق تهرب بسرعة غير مألوفة. تشكو أشياء لم تكنء تشكو منها. تلءمس في جسدك ضعفًا لم يعهدءه منء قبل. تصحو مكدودًا. وتأوي إلى فراشك مرهقًا. لا يجيء النّوم الذي كان لا يغيب. تأتي أفكار معتمة كدُخَان أسود. وتتقلَّب حتّى يملَّك الفِراش. وتَملَّك صفحات الكتاب الذي رجوتَه حليفاً للنّوم فانقلب صديقًا للأرق.
تصحو متثاقلاً. وتتخيَّل في نظرات الذين يحبّونك إشفاقًا لم يكنء يسكنها. وتتخيَّل في نظرات الآخَرين. حَسَنًا! دَعءكَ من الآخَرين ونظراتهم! هي صدمة الشّيخوخة جاءتء بعد ربع قرن من الصّدمة الأولى، صدمة منتصف العُمءر. والفرق بين الصّدمتين شاسع جِدًّا". (ص 7)
غير أنّه اختتم كتابه، بذكاء فائق، ب"مواسم" الفرح والحياة، فاستعار من "البيت الكبير" في "الرّفاع"، بيتًا يرمز إلى ذلك البيت القصيبيّ الكبير، ولم يكنء هذا البيت في "الأماكن القديمة" في الرّفَاع، ولكنّه في "الأماكن الجديدة" في الرِّياض، ومثلما ضمّ ذلك البيت الأعمام والإخوة والأبناء، ضمّ بيته الكبير في الرِّياض الأبناء والأحفاد، يُشءربون كلُّهم بتلك "المياسم" القصيبيّة، وكأنّهم يستعيدون في واعيتهم خضرة شجرة "الكينا" ورسوخها في الأرض، بعد أن استبدلوا بالمفردات القديمة مفردات جديدة
"ودارت السّنين. وجاءتء مواسم كثيرة. ورحلتء. ومرّ بالأسرة التي انفصلتء بما يمرّ على غيرها من البشَر منء مواسم فرح ومواسم دموع، وها أنتَ ذا، الآن، في الخامسة والسّتّين، تودِّع مواسمك كلّها، وتسعد برؤية مواسم أولادك، وأولادهم". (ص 90).


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.