أشرت في الجزء الأول من هذه السلسلة، التي تتناول قضية البطالة بين الشباب السعودي، إلى أهمية التركيز على البيئة التنظيمية الداعمة والمرغبة والمشجعة والممولة لبيئة عمل جاذبة للشباب السعودي، من أجل القضاء على البطالة بين الشباب.. هذا المدخل - في تقديري - لا يقل أهمية عن ترشيد الاستقدام، وتعظيم برامج التدريب في حل إشكال البطالة بين الشباب السعودي، وعلينا ألا ننتظر لحين ضبط شلال الاستقدام، أو التريث لحين تؤتي برامج التدريب أكلها.. فإذا كان هذان الحلان تعتورهما الكثير من التعقيدات إما مقاومة أو انتظاراً، فإن التركيز على البيئة التنظيمية الداعمة تمثل الأمل السريع في حل إشكال البطالة بين الشباب، خاصة تلك الشريحة من غير المؤهلين تأهيلاً عالياً، والتي تمثل النسبة الكبرى من العاطلين عن العمل، وفقاً لآخر احصائيات وزارة العمل، ومصلحة الاحصاءات العامة. هؤلاء شباب حائرون ومترقبون، ومعهم أسرهم، وهم باحثون عن بصيص أمل يقودهم إلى الحصول على فرص عمل لائقة وحقيقية، ومتناسبة مع ظروف معيشتهم، وحافظة لكرامتهم، ومتماشية مع المعايير السائدة في مجتمعهم، ومتسقة مع القيم المرعية في ثقافتهم المحلية.. وحيث أن معظم هذه الشريحة المستهدفة من الشباب السعودي حديثة العهد بالقطاع الخاص وظروفه وشروطه ومنطقه ومتطلباته، وبعد عقود طويلة من يُسر الوظيفة الحكومية، فإن من حقهم علينا - ولو في البدايات - أن نأخذ بأيديهم برفق لتجاوز هذه المرحلة، والعبور بهم بسلام، في بحر القطاع الخاص.. هذا القطاع الذي لا يرحم، وعُرف بقساوة قلبه، وبرودة أعصابه، وبعمله وفق مبدأ (البقاء للأصلح).. هذا المنطق السوفي لم يعتد عليه هذا الجيل الناشئ من شبابنا الغرّ الوديع الناعم، ولم يكتسبوا بعد المهارات الشخصية والنفسية والمسلكية الضرورية، ولم يحصلوا بعد على الدعم التنظيمي والتمويلي الكافي للتعامل مع منطق القطاع الخاص وضروراته. نحن أمام (خصوصية) من نوع خاص فيما يتعلق ببطالة الشباب السعودي، سواء فيما يتعلق بالشباب أنفسهم، أو سوق العمل القائم.. وإذا كان السوق، وليس الوظيفة العامة، هو (المستقبل)، فعلينا أن نهيىء لشبابنا بيئة عمل داعمة وجذابة ومبدعة، تأخذ في الاعتبار نسق القيم السائدة في المجتمع الضاغط على الشباب، وكذلك ظروف المعيشة المحيطة بهم.. ما أحوجنا إلى بيئة عمل تحفل بوصفات وآليات مرغوبة لدى هؤلاء الشباب شكلاً ومضموناً.. بيئة تكون قادرة على استيعاب هؤلاء الشباب، في مختلف المناشط الاقتصادية خاصة الخدمية منها، وتمثل مجالاً لطموحاتهم وآمالهم، وتمكنهم من الحصول على مرتبات أو أرباح مجزية، بمقاييس المجتمع السعودي نفسه.. وهذا الشيء ذاته تحدث عنه وزير العمل، عندما صرّح - مؤخراً - بأن جهود السعودة لا يمكن أن يُنظر إليها، أو حتى تُقيّم، بمعزل عن البيئة المحيطة بها.. وهذا هو المدخل الصحيح لمعالجة هذه المشكلة الملحّة.. وإذا كان حلّ مشكلة البطالة بين الشباب السعودي قد واجهت ما واجهت من المقاومة عبر (بوابّة) الاستقدام، فضلاً عن ضرورة الانتظار الطويل لقطف ثمرات التدريب.. فلماذا لا نغيّر قليلاً في أسلوب مواجهة المعضلة عبر بوابة أخرى، ألا وهي محاولة التحضير والإعداد لإيجاد بيئة عمل محفّزة للشباب للعمل في القطاع الخاص، تعمل عبر برامج التعريف والجذب والدعم والاستقرار والتمويل، في مختلف النشاطات الاقتصادية المتاحة والمريحة في السوق السعودي، خاصة تلك النشاطات التي تجد قبولاً لدى الشباب في الشكل والقالب، أو المضمون وطبيعة النشاط، ويدعمها المجتمع، وتزكّيها الثقافة السائدة فيه.. هذه البيئة المقترحة يقود للتعرّف عليها أمران: الأول، إجلاء جملة محدّدات وعوامل ومؤثرات، ذات أبعاد اجتماعية وثقافية ونفسيّة وتسويقيّة، منها ما يتعلق بالشاب العاطل نفسه، من حيث هو شاب يعيش في مجتمع له سماته وقسماته، ويستجيب لثقافة محليّة معينة.. وبعضها الآخر يتصل بالسوق السعودي ذاته، حيث هو آليات وفرص وخصائص.. وثانيهما، تهيئة سلة من الخدمات والإجراءات والتنظيمات والآليات والتسهيلات، وإعداد حزمة من المغريات للشباب السعودي طلاب العمل، تُمسك بخطام خيال هؤلاء الشباب، وتسوقهم طواعية وبرغبة لسوق العمل في القطاع الخاص.. إن غالبية المنظّرين للبطالة في سوق العمل السعودي، تحليلاً ومعالجةٌ، ينظرون لها من زاوية فنيّة بحتة، ومعايير سُوقيّة عالمية، ويستخدمون لهذا الغرض الأدوات والمنهجيّات والوصفات، السائدة في معظم أدبيّات معالجة البطالة في العالم.. وهذا صحيح ومنطقي لتحليل البطالة في المجتمعات الأخرى، التي ألفتء اقتصاديات العمل في السوق منذ عقود.. أما في مجتمعنا فالأمر جدّ مختلف. لقد كان العمل في مجتمعنا يعني "الوظيفة الحكومية"، ليس إلاّ، وعليه، نشأ جيل لا يعرف من مفهومات العمل إلاّ "الوظيفة الحكومية"، التي تأتيه بشكل تلقائي، وفي المكان الذي يريد، والوظيفة التي يرغب، وبالتالي، فإن شباب اليوم لم يألف ثقافة السوق، ولا يعرف كيف يتعامل مع منطق السوق، ولا مع آلياته وضوابطه وأخلاقياته، ناهيك عن تحمّل قسوته وشروطه. البطالة في المملكة العربية السعودية لا يمكن إرجاع أسبابها (فقط) إلى الأسباب التقليدية المعروفة عالمياً، مثل عدم توفر فرص العمل، أو الكساد والركود الاقتصادي، أو التحولات الكبرى في الآلة والتقنية، أو الانهيارات الاقتصادية العالمية. إن أحد الأسباب الحقيقية لوجود البطالة، في المجتمع السعودي، هو توقّف الجهاز الحكومي عن النمو، باعتباره الموظف التقليدي والوحيد لجميع فئات المجتمع خلال عدة عقود خلت، كما يعود السبب إلى تضاعف عدد السكان، وكون الشباب المقبل على العمل يمثّلون النسبة الأكبر في الهرم السكاني في المجتمع. ثم تفاقم الأمر عندما لم نتمكن بعد من تسهيل عملية التحوّل مباشرة، والانتقال بسرعة في التوظيف من القطاع الحكومي إلى القطاع الخاص بمعدّلات قياسية، ووثيرة مناسبة.. كما عجز الشباب السعودي بمفرده - لأسباب في ثقافته وفي السوق، على القبول والكيّف مع القطاع الخاص، من حيث ظروفه وشروطه ومتطلباته ومفرداته وآلياته، وخصائصه، التي تختلف اختلافاً نوعيّاً، عمّا عَرف وألف عن وظائف القطاع الحكومي وبيئته. ولو كان التدريب هو المفتاح (الوحيد) لحلّ المعضلة لما وجدنا نسبة البطالة بهذا الحجم المتصاعد التي هي عليه الآن؛ فالمؤسسات التدريبية العامة والخاصة، كانت، وما زالت، تستقبل الآلاف وتخرّج الآلاف سنوياً من الشباب المؤهلين والمدربين، ومع ذلك لم يُحدث هذا انفراجاً كبيراً في معالجة مشكلة البطالة، بل إن الأزمة تتفاقم، والأرقام تتزايد، عاماً بعد آخر. وإذا علمنا بأن في المملكة العربية السعودية، طبقاً لآخر وأحدث الاحصائيات الرسمية، بأن عدد المقيمين بلغ (6.144.236)، يمثلون (27.01%) من إجمالي عدد السكان، وفي ذات الوقت تبلغ نسبة البطالة بين الشباب القادر والراعب في العمل، في حدود (10%) وفق أكثر الاحصائيات تحفّظاً، وإنه إذا أضيفت الباطلة الاختيارية لقفزت النسبة إلى (22%) وإذا أُضيفت بطالة النساء لزادت النسبة أكثر.. إذاً، كيف يستقيم ذلك؟! ومع ذلك فهذا هو واقع الحال.. مع العلم، أن النسبة الكبرى من العمالة الوافدة تأتي (بدون) مهارات تُذكر، وإذا تطلّب الأمر تدريباً فإن ذلك يتمّ على رأس العمل عندنا في المملكة.. ليس هذا فحسب، بل إن الوافدين يتدافعون ويتقاطرون، على هذه البلاد، من شتى أصقاع العالم برغبة شديدة، وينفقون الأموال والمدخرات في سبيل حصولهم على سمة الدخول، وهناك شركات ابتزاز وتزوير ورشاوى تُدفع من أجل هذا الغرض، وهناك تخلّف، وهناك ترحيل بالإكراه. إن هذا يعني أن في السوق السعودي فرص عمل حقيقية، وأنها جذّابة، وأنها تدرّ دخلا ممتازاً، وأنها لا تتطلّب تدريباً حقيقياً كمتطلب ابتداء.. وهذا أيضاً ينفي - مرة أخرى - أن المعضلة والحل هو في "التدريب"، إذا استبعدنا تخصصات محدودة (الطب والهندسة والعلوم).. ولو استبعدنا المهن التخصصية النادرة التي تتطلب تدريباً ومهارات متخصصة، واستبعدنا، أيضاً، المهن غير المقبولة من المواطن بحكم تواضع دخلها، أو ضعف مكانتها الاجتماعية والرمزيّة، فإنه يظل هناك مئات آلاف - إن لم يكن الملايين - من فرص العمل التي يمكن أن تقضي على البطالة السعودية، بنوعيها الإجبارية والاختيارية.. إذاً، أين الحلّ؟ وكيف السبيل؟ إذا سلّمنا - وهذه حقيقة - بأن القطاع الخاص سيكون هو المُوظّف الأكبر للشباب، حاضراص ومستقبلاً، وعرفنا بأن هناك حالة من التردّد، والعزوف، وعدم التكيّف، بين قطاع عريض من الشباب خصوصاً من ذوي المهارات المنخفضة، للانخراط المباشر في وظائف ومجالات العمل في القطاع الخاص، عدا الاستثناءات المعروفة (أرامكو، سابك، البنوك، الاتصالات).. إن هذا الوضع يعني أن الشباب السعودي - من حيث المبدأ - لا يتمنّع عن العمل في القطاع الخاص من حيث هو قطاع، إذا كانت الفجوة، في تصوره ومخياله، ليست كبيرة بين القطاع الحكومي والقطاع الخاص، من حيث المزايا والمتطلبات والظروف.. ويعني - أيضاً - أن الشباب السعودي يفضّل العمل في المنشآت الكبرى، ذات الشخصية الاعتبارية، التي لا يبدو فيها المالك شخصاً، بحيث تمثل له المنشأة الدولة، بصورة من الصور.. كما يعني أن الشباب السعودي لا يفضّل العمل لدى أفراد بعينهم، وبشكل مباشر، خاصة إذا كان هذا في سياق النشاطات التجارية الصغيرة، وفي قطاع غير مُنظّم (حانوت صغير في الحي، أو مطعم، على سبيل المثال)، وبدون حقوق وواجبات واضحة ومكتوبة.. كما يدل على أن الشباب (يُقبل) على الأعمال المستقرة الواضحة، التي تعطيه شعوراً بالأمن الوظيفي، ويكون العمل منظماً، وساعات العمل فيه معروفة.. الشباب السعودي يقبل، من حيث المبدأ، أن يعمل لحساب نفسه، أو لحساب غيره، في القطاع الخاص، عند تُوفّر الظروف الموضوعية والإنسانية والرمزيّة والتحفيزيّة التي تشجعه على ذلك. وهذا يعني أن الرمزيّة والمكانة الاجتماعية، وما ألفه المجتمع، وما يخلعه على الوظيفة من رمزية، تلعب أهمية كبرى في مدى إقبال الشباب على الوظيفة في القطاع الخاص، لدرجة تفوق - في كثير من الأحيان - المرتّب الذي يحصل عليه (فراش، مستخدم في الحكومة، على سبيل المثال).