إن المدخل إلى توفير بيئة العمل المحفزة والجاذبة للشباب السعودي من أجل القضاء على البطالة بينهم، ينبغي أن ينطلق من فرضية كبرى وهي: أن القطاع الخاص هو الحل الوحيد لتوظيف الشباب السعودي مستقبلاً، وأن الشباب لديهم القابلية للانخراط في كافة المناشط الاقتصادية في سوق العمل السعودي.. لذا ينبغي أن تكون جهودنا منصبة على تهيئة هذا القطاع، وجعله يتحول إلى بيئة عمل جذابة ومضيافة للشباب السعودي، بحلول مبدعة تلائم الشباب نفسياً، وتحفظ حقوقهم، وتلبي ظروفهم الاجتماعية، وتراعي محفزات الثقافة الاجتماعية السائدة ومتطلباتها، وبما يجعل الشباب السعودي يقبل - فعلاً - على العمل في هذه القطاع ويستقر فيه. يمثل إيجاد هذه البيئة التي تجذب الشباب للانخراط في القطاع الخاص، وتعمل على استقرارهم فيه، (جوهر) حل المشكلة.. فإيجاد هذه البيئة يتطلب القضاء على ما يعانيه الشباب العاطل من مشكلات استدلالية وتوجيهية ودافعية وتشجيعية وتقويمية ومعرفية وإدراكية، وكذلك توفير ما يحتاجون إليه من آليات، تحفيزية وتمويلية، وإزاحة كثير من العقبات والمعوقات التنظيمية والإجرائية، مع تقديم أمثلة تشغيلية نموذجية (ناجحة) للشباب؛ لإحداث التغيير النوعي المطلوب في عقليات الشباب، ونمطية تفكيرهم، ومسار تطلعاتهم.. ومن ذلك: أولاً - الجهل، وضعف الدافعية، ونقص القدرة.. فالشباب يجهلون فرص العمل المتاحة والمناسبة لهم في السوق.. ولا توجد جهة محددة، مخصصة ومتخصصة، تؤدي خدمات استدلالية.. تدل الشباب على هذه الفرص بطريقة (جذابة ومبدعة).. ولا تتوافر جهات (حكومية، خاصة، تطوعية) ذات فاعلية حقيقية، تحفز وتدفع الشباب لهذه الفرص.. ولعل فيما طرح عن فكرة تخصيص مكاتب خاصة لتوظيف السعوديين من قبل وزارة العمل، بدلاً من مكاتب العمل الحالية، هو أحد هذه الحلول المبدعة.. كما لا توجد برامج تقدم للشباب المبتدئين أمثلة مبسطة نموذجية واقعية لقصص نجاح الشباب الذي سبق له طرق هذه المجالات، قصص يمكن أن تمثل للشباب العاطل الحلم والأمل والطموح والقدوة. وجهل الشباب يمتد، أيضاً، إلى الجهل بآليات عمل السوق السعودية، وأخلاقيات العمل، و"كار" المهن، ويزداد الأمر صعوبة على الشباب المبتدئ حيث تختفي من السوق السعودية نفسها التنظيمات المهنية والحرفية (Union)، لكل مهنة، التي عادة تحمي أصحاب المهن أنفسهم من شراسة آليات السوق وابتلاعاته، وتوفر المعلومات للأعضاء، وتيسر لهم آليات تبادل المنافع بينهم، كأنهم أسرة واحدة، كما هو حاصل في كثير من الدول. وثانياً - تحديد ساعات العمل.. وهذا واحد من أهم العقبات التي تقف منفرة في وجه الشباب الذي يرغب العمل في القطاع الخاص وهو موضوع (ساعات العمل في الأسواق).. وهذا لا يعالجه سوى تحديدها.. ولا يوجد بلد في العالم مثل المملكة بهذا التسامح،، حتى دول الخليج من حولنا، فساعات العمل فيها ( 8- 12- 4- 9) والدول الأوروبية ( 9- 5). إذ كيف يستطيع شاب - حتى لو قبل براتب قليل - أن يقبل بساعات عمل متواصلة طويلة ( 16ساعة يومياً ومن دون أيام جمع)، وعلى حساب حياة اجتماعية وأسرية، وصداقات وترفيه، وخصوصيات أخرى يحتاج إليها أي شاب في وقتنا الحاضر! وثالثاً - أهمية البحث عن حلول مبدعة ومبتكرة للتشغيل والتوظيف عبر (كيانات) تلائم الشباب، وتنسجم مع تركيبتهم النفسية، والمناخ الاجتماعي السائد، والثقافة المسيطرة عليهم بقيمها ورموزها وإيحاءاتها. فالشاب (طالب العمل) في القطاع الخاص أمامه خياران: إما أن يعمل لحساب نفسه، وإما لحساب غيره.. وفي كلتا الحالتين، فإن تريبات سوق العمل السعودي، بوضعه الحالي، لا تشجَّع شباب هذا الوقت على الإقبال على هذين المسارين؛ لأن سوق العمل السعودي - في مجمله - غير مضياف، ربما مخيف، للشباب السعودي. كما أنه سوق غير منظم، بكل ما تعنيه هذه الكلمة، حيث: سيطرة العامل الوافد، وعدم الحماية، وعدم وضوح الحقوق والواجبات، وعدم وجود حدّ أدنى للأجور، وعدم وجود تأمينات اجتماعية إجبارية للمناشط الاقتصادية المتناهية الصغر. هذه المناشط الصغيرة هي (الغالبة) والمسيطرة على السوق السعودية.. يُضاف إلى ذلك تربية اليُسر لهؤلاء الشباب؛ لكون "الوظيفة في الحكومة" هي الهاجس المسيطر، وهي الغاية الأسمى، ومنتهى الطموح للشباب، بما توفره من أمان وضمان، ومزايا وإجازات، ورتابة وكسل، وضعف إنتاجية من دون محاسبة أو فصل أو استغناء. فإذا أضفنا إلى ذلك ما تقدّم من جهل وعدم اكتراث، وضعف دافعية، وقلة محفزات، فإن الحل هو البحث عن حلول مبدعة ومبتكرة للتوظيف والعمل تلائم هؤلاء الشباب، ومن ذلك: أولاً: الشباب الذين يرغبون في العمل لحساب أنفسهم، ولكن لا يستطيعون ذلك بسبب ندرة الخبرة، وقلة رأس المال.. فهذا يمكن تحقيقهما عبر إنشاء شركات كبرى، في مختلف الأنشطة الاقتصادية، خصوصاً في قطاع الخدمات وتجارة التجزئة، وهو أكبر قطاع في السوق السعودي، ويكون هؤلاء الشباب هم الشركاء فيها، أو الأُجراء ابتداءً على طريقة (التراخيص Franchising)، ثم العمل وفق ما يسمى بقاعدة "المشاركة المتناقصة"، لحين يمتلك الشاب الفرع (100%)، ولكن يظل يستفيد من التسهيلات، ومن خدمات الجودة والدعاية، والمعلومات، والتواصل مع أصحاب المهنة والعملاء المستهدفين عبر شبكة الفروع.. وهذا أسلوب من أنجح أساليب التشغيل للشباب في الدول الغربية والشرقية، ويمكن أن يدخل تحت هذه المظلة جميع الأنشطة الخدمية التي لا حصر لها في المملكة (محلات خدمات الطالب، محلات الورد، مطاعم الوجبات السريعة، المقاهي، مقاهي الإنترنت، خدمة السيارات... إلخ)، ويضاف إلى ذلك ملايين الفرص المتاحة من نقاط البيع الصغيرة. ميزة هذا الخيار أن الشاب يستطيع أن يُقدم على هذا النشاط من دون خبرات سابقة؛ لأنه يستفيد من خبرات راسخة من الشركة الأم في أساليب تأسيس المنشآت الصغيرة، وتوفر له هذه الشركات الحماية والمعلومات اللازمة، فضلاً عن أن النشاط - عادة - يكون معروفاً ومجرّباً، ومن دون مخاطر تُذكر. ثانياً: الشباب الذين يرغبون العمل موظفين لحساب غيرهم، وهذا يمكن تحقيقه عبر تشجيع تشكيل (كينونات) من الأنشطة فردية، لتكون ذات صفة (اعتبارية)، تتمتع بالاستقرار والنمطية، وتوفر المزايا التي يسعى إليها الشباب عادة، ويكون الشاب - هنا - موظفاً بأجر، ولكنه في كيان تجاري منظّم ومترابط ومُستّقر، ويشعر الشاب وكأنه يعمل لحساب شركة كبرى (سيارات الأجرة في بريطانيا والبحرين، على سبيل المثال). هذان المساران المقترحان لعمل الشباب يتميزان بعدة مزايا، منها: أنهما يناسبان المجتمع السعودي والثقافة السائدة فيه، سواء عمل الشباب لنفسه عبر هذا القالب العصري، أو عمل لغيره بأسلوب لا يجعله في مواجهة مباشرة مع المالك على الطريقة التقليدية.. كما أنهما يناسبان عقلية الشباب، ومقبولان اجتماعياً، حيث يمثلان صيغات عصرية جديدة، لكونهما أقرب صورة للعمل في الدولة، ولكونهما كينونات كبرى. أما من حيث المضمون فيتميز هذان المساران ب : الأمن الوظيفي، ووضوح الحقوق والواجبات، والإجازات، ومحدودية ساعات العمل، وغياب النظرة الدونية والوصمة الشخصية المرتبطة بالعمل لفرد. كما يتميزان بأنهما لا يحتاجان إلى رؤوس أموال كبيرة، خصوصاً مع توافر دعم الدولة، وتسهيلاتها ومزاياها التي سبق الإشارة إليها.. وأنهما لا يتطّلبان خبرة كبيرة.. فطبيعة العمل والنشاط واضحة ومنمطّة وسابقة قبل التحاق الشباب بأي من المسارين.. وهناك دعم معلوماتي ودعاية وتسويق، ومعيرة سابقة للأداء من الشركة القابضة. وبهذا سيجد الشاب أن أغلب العقبات والتخوفات المرتبطة - عادة - بالبدء في الأعمال التجارية الجديدة قد ذُلّل له، وما عليه إلا الانصراف إلى العمل في الفرع الذي يعمل فيه، والبدء فوراً بمزاولة النشاط، كما أن عنصر المخاطرة محدود جداً، فالنشاط - من حيث هو نشاط - قائم ومجرّب قبل التحاق الشاب فيه. ويتميز المساران - أيضاً - بأنهما (Labor Intinsive).. أي: أنهما من أفضل المحاضن والآليات قدرة على امتصاص أكبر عدد من الشباب السعودي العاطل عن العمل، حيث إن النسبة الكبرى والأعظم من الأعمال المتاحة في سوق العمل السعودي مركّزة في قطاع الخدمات وتجارة التجزئة، بكافة أشكاله وصوره ومستوياته. ولكن هذا لا يعني أن الطريق مفروش بالورود أمام هذين المسارين، فنجاحهما يتطلب جهداً كبيراً - في البدايات - تشترك فيه الدولة عبر وزارة العمل والجهات المرتبطة بها، والقطاع الخاص، والغرف التجارية، ومنظمات مجتمع مدني تُنشأ لهذا الغرض. كما ينبغي شجيع ما يسمى ب "العمل عن بُعد"، خصوصاً بالنسبة إلى المرأة، وذلك بتشجيع التجارب المرتبطة بهذا المفهوم من أسر منتجة ومشروعات فردية، لعله يكون من أنجح الصيغ الإنتاجية ملاءمة لظروف المرأة في المجتمع السعودي.. ويمكن أن يستفاد في ذلك من خبرات منظمة العمل الدولية، ومنظمة العمل العربية. ويرتبط نجاح هذين المسارين بتقديم حملة من التسهيلات الحكومية للكيانات والمسارات المقترحة لعمل الشباب المبتدئين، مثل: سرعة منح التراخيص لها، والتقليل من الإجراءات البيروقراطية المبطّئة، والمعوّقة، وخدمات التعقيب لدى الجهات الحكومية، والإعفاءات الجمركية، والمزايا النسبية والتنافسية، وكذلك تقديم ألوان متعددة من القروض والمنح الميسرة، على الأقل في البدايات، لهذه الكيانات المقترحة لاستيعاب الشباب. هؤلاء شبابنا، وهم أمانة في أعناقنا، وبقاؤهم بهذا الشكل بانتظار إيقاف شلاّل الاستقدام، أو المرور عبر برامج التدريب التي قد لا تُقبل عليها الشريحة العريضة المستهدفة، يمثل - في نظر كل مهتم بالشأن العام - قنبلة موقوتة، قد تنفجر في أي لحظة في وجه المجتمع.. وما زال النقاش مفتوح