من أغرب الحالات التي جاءتني في عيادتي، خوف ام صالح على ابنها من البخل، لانها لاحظت في تصرفاته وافعاله بعض الدلائل على البخل، خصوصا وانها تخشى عليه من انتقال مرض البخل وراثياً اليه من ابيه كما تقول!!. فصالح يحتفظ بصندوق كبير قد صنعه بنفسه، واغلقه من جميع الجهات بمساميرلا تسمح بفتحه، وقام بفتح ثقب صغير يسمح للاوراق المالية بالدخول، ولكنه لا يسمح لها بالخروج مرة اخرى!!. ويضع هذا الصندوق المصمت تحت سريره بعد ان يغطيه بقطعة قماش صفراء، ويقوم بتفقد الصندوق بين فينة وفينة، بل انه يقوم بتفقده قبل كل شيء فور عودته من المدرسة او من زيارة خارج البيت حتى قبل ان يخلع ثوبه او حذاءه!!. @@@ يستلم صالح مصروفه اليومي ليشتري به من المدرسة افطارا او حلوى، ولكنه لا يفعل، بل يحتفظ بتلك النقود حتى يرجع للبيت ليلقي بها في غياهب ذلك الصندوق الخشبي، فيحرم نفسه من الافطار والحلوى، وربما حل ضيفا ثقيلا على زملائه، فيشارك هذا في شطيرته، ويذوق من حلوى الاخر، ويشرب مما تبقى في العلب، ولكن بعد ان اعيته الحيل، وتخلى عنه أصحابه (فالبخيل لا صديق له)، اصبح يتسلف من الآخرين، ولكنه (سلف تلف) لا يرجى رده ولا يمكن تحصيله!!. حتى ارسلت المدرسة الى أبويه بالشكوى ممايحدث، فقرر الابوان ايقاف المصروف اليومي وابداله بشطيرة بيتية ومشروب، وسرعان مافشل هذا المشروع حيث بعثت المدرسة بشكوى اخرى مفادها (ان صالح يبيع شطيرته ومشروبه للاطفال وهذا ممنوع لدواع صحية)!!. @@@ والحقيقة اننا بدأنا نلحظ في الفترة الاخيرة انتشار داء البخل بين افراد المجتمع، فاصبحت البيوت تشتكي من بخل اصحابها، فهذه زوجة تشتكي من بخل زوجها وتقتيره عليها، وهولاء ابناء وبنات يصطلون ببخل آبائهم فيحرمون من متع الدنيا وزينتها التي أخرجها الله لعباده بحجة الاقتصاد وعدم الاسراف!! ولكن ماهو الضابط الحقيقي والمتفق عليه بمعنى الاقتصاد اوبمعنى الاسراف؟!!.. وهل كل إمساك للمال دائما بخل، وفي المقابل هل كل منفق للمال دائما مسرف!!.. @@@ لقد استعاذ سيد الخلق صلى الله عليه وسلم من البخل وحذر منه، لعلمه بانه مرض وابتلاء يصيب العقل فيفسده ويقلب موازينه ،ويصيب النفس فيمرضها ويعلقها بحب المال وجمعه ،فينقلب المال من وسيلة الى غاية، ويصبح جمع المال في حد ذاته هدفاً، فتصيبه دعوة الرسول الكريم بالتعاسة والشقاء والكآبة حين قال صلى الله عليه وسلم (تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم)، ولعل هذا يفسر انتشار الكآبة وفقدان السعادة عند كثير من الناس الذين جعلوا المال هدفاً لهم، فوقعوا في براثن البخل!!. وللحديث بالتأكيد بقية، وعلى دروب الكرم نلتقي!!