وأنت تسير في شوارع موسكو الشهيرة، أو تهم بصعود إحدى عربات المترو (تحت الأرض)، تلحظ البعض من الرجال أو النساء يقفون على قارعة الطريق، أو يتخذون من إحدى الممرات مكاناً لهم، يحملون على صدورهم لوحات دعائية قد علقت بأعناقهم (نبيع المؤهلات والشهادات الجامعية العليا)، وعندما تقترب منهم، وتحاورهم تجد أن الحصول على هذه الوثيقة أسهل بكثير من أن تشتري علبة سجائر من أي محل تجاري(مع اختلاف السعر)، بل وتزداد دهشتك إذا علمت أنها تحمل اسم وخاتم معاهد وجامعات روسية لها ثقلها الأكاديمي والعلمي العريق، وكل ذلك تحت مظلة مساعدة الراغبين في الحصول على وظائف وأعمال تشترط شهادات علمية محددة، ولكن سرعان ما يكتشف من يتعامل معهم أنه قد وقع في فخ النصب والاحتيال عند مراجعته لأي إدارة أو جهة حكومية روسية، أو حتى المعهد أو الجامعة التي تحمل هذه الوثيقة اسمها، حيث أن العملية كاملة لا تعدو عن كونها عملية "تزوير" وليس للجامعة أو المعهد صاحب الاسم أي علاقة بالأمر، إلا أنه أقحم اسمه في العملية للترويج والبيع. ورغم الجهود المكثفة التي تبذلها الجهات المختصة لمحاربة هذه الظاهرة وتضييق اتساع دائرتها إلا أنهم يتخذون أساليب ملتوية ويتحايلون على زبائنهم من محبي الشهرة السريعة خاصة الأجانب. هذا من جانب ومن جانب آخر تواصل الرشاوى ازديادها داخل المؤسسات التعليمية العليا الروسية، حيث تُشير المعلومات الواردة إلى تلقي طائفة من العاملين في هذه المؤسسات لمكافأة غير شرعية لقاء مساعدتهم الراغبين في الانتساب إلى الجامعات أو في تقديم الامتحانات والاختبارات بنجاح. فخلال هذا العام 2008قامت وحدات مديرية الأمن الاقتصادي بالكشف عن 1.3ألف جريمة مرتبطة بالحصول على رشاوى، وأن أغلب هذه الحالات قد وقع داخل المؤسسات التعليمية العليا، الأمر الذي أصبغ عليها أنها أكثر المؤسسات الروسية فسادا. كما تُشير البيانات الصادرة عن اليونسكو عام 2007إلى أن حجم الرشاوى وصل في المؤسسات التعليمية العليا الروسية إلى 520مليون دولار، وأن ابتزاز الأموال داخل هذه المؤسسات أضحى أمراً مألوفاً ومعتاداً إلى درجة كبيرة. ولعل قيام الأجهزة الأمنية بتوقيف نائب عميد فرع مدينة "فلاديمير" لأكاديمية خدمة الدولة الروسية التابعة لرئيس الدولة، وكذلك رئيس أحد أقسام إدارة المدينة، حيث ساعدا لقاء رشوة بعض الراغبين في الانتساب إلى المؤسسات التعليمية العليا وقدموا لهم المساعدة بعد ذلك خلال دورات الامتحانات، لأبلغ دليل على تردي سمعة المؤسسات التعليمية في روسيا.أيضا أقيمت دعوى جنائية كذلك في مدينة "بينزا" ضد رئيس القسم العسكري في احدى الجامعات بسبب الرشوة، وقبلها تقدمت طالبة في إحدى الكليات الزراعية بشكوى لأجهزة الأمن في تيومين، مؤكدةً أن أحد المدرسين يطالبها بألفي روبل لقاء علامة نجاح في الامتحان، بالإضافة إلى تلقي أجهزة الأمن 8شكاوى من طلاب وقعوا ضحايا ابتزاز المدرسين المرتشين. وقد كان لموسكو نصيب من هذه الظاهرة التي تفشت داخل روسيا ما بعد الاتحاد السوفيتي فقبل عدة أيام تمكن موظفو وحدة مكافحة الجرائم الاقتصادية في قيادة شرطة موسكو من اعتقال أستاذ مساعد في معهد موسكو للطرق والسيارات "اناستاس ليونوف" عند استلامه لرشوة جماعية مشتركة قدمها له 15طالبا من الدارسين في هذا المعهد العالي تبلغ قيمتها 103آلاف روبل، وذلك مقابل وعده بالسماح لهم بتقديم اختبار في الرياضيات العليا، وقد ذكر الطلاب أن المدرس المرتشي قد حدد أرقاما ثابتة ب 100دولار مقابل تقديم المذاكرة و 200دولار مقابل الفحص التمهيدي، الأمر الذي جعل نسبة كبيرة من الطلاب رهينة ديون هذا المدرس المرتشي الأمر الذي دفعهم لإبلاغ الشرطة.ويؤكد الخبراء أن هذا البلاء لن يختفي من الجامعات بمعاقبة مدرس أو عدة مدرسين، ويرى بعض طلاب معهد موسكو للطرق والسيارات الذين جرى استطلاع رأيهم أن مقدار الرشوة التي يدفعونها لن يتقلص بعد القبض على ذلك المدرس، ونوهوا إلى أن الغالبية العظمى من المدرسين يتقاضون الرشاوى وأن عدد الأساتذة الشرفاء أقل من عدد الأصابع. وقد نوه السكرتير الصحفي لمديرية الأمن الاقتصادي في وزارة الداخلية الروسية "اندريه بيليبتشوك" بأن أجهزة الأمن نفذت في الفترة من مايو إلى أكتوبر عام 2007عملية وقائية تحت اسم "تعليم -2007" أقامت في إطارها 391دعوى جنائية حول الرشاوى في الجامعات والمعاهد التعليمية العليا. وتعتبر الجامعات والكليات الاقتصادية والحقوقية الأكثر فسادا. وكما ذكر رئيس صندوق التعليم لعموم روسيا "سيرجي كومكوف" أن رشاوى كبيرة تدفع كذلك في الكليات ومعاهد العلاقات الدولية، أما في الكليات التقنية والإبداعية فالرشاوى قليلة نسبيا. ويعود سبب ذلك إلى أن سمعة هذه المهن ليست بالعالية، ولأن المهندسين والفنانين يحصلون على قدر أقل من المال بعد التخرج. هذا وقد أوضح وزير التعليم والعلوم الروسي "اندري فورسينكو" في كلمته أمام مجلس الدوما لدى حديثه عن مستور الأجور الرسمية التي تدفع لقاء الدراسة في الجامعات والمعاهد الرسمية الحكومية بأن أكبر الأقساط المالية تدفع اليوم لقاء الدراسة في كليات العلوم الإنسانية في جامعة موسكو. وهي تزيد على 250ألف روبل في العام، وفي معهد موسكو للعلاقات الدولية الحكومي يدفع الطالب نفس المبلغ تقريبا، وكذلك تعد أقساط معهد الحقوق العالي الحكومي عالية نسبيا. مشيراً إلى أن تكلفة الدراسة في الكليات التقنية هي أقل من ذلك بكثير. وبينما يشير بعض المدرسين في الكليات والمعاهد إلى أن الطلاب هم المبادرون عادة لدفع الرشاوى، وذلك لعدم رغبتهم في بذل الجهود والدراسة، يؤكد الطلاب على أن المدرسين يغالون في مطالبتهم بالأبحاث والمعلومات خاصة مع قلة الوقت وعدم كفايته للدراسة لاسيما وأن الكثيرين من الطلاب يعملون يوميا لأن المنحة المالية لا تزيد عادة على عدة مئات من الروبلات وبالتالي لا تكفي بتاتا لسد الرمق. أما الخبراء المستقلون فيؤكدون على أن أشكال الرشاوى تتنوع كل عام، ويظهر الجديد منها في كل سنة، فعلى سبيل المثال لم يعد الطلاب كالسابق يدفعون نقدا لقاء اجتياز الامتحان بسلام بل باتوا يحولون المال لحساب مصرفي للمدرس، أو يشترون له بطاقة استجمام خارج البلاد. ويرى هؤلاء الخبراء أن السبب الرئيس في الرشوة في مجال التعليم العالي هو انعدام الإجراءات الفعالة في مجال مكافحة الرشوة ووجود أزمة في نظام التعليم العالي الروسي. حيث يُشير رئيس لجنة التعليم في مجلس مدينة موسكو "يفجيني بونيموفيتش" بأن الطلاب يدركون في الغرب أن المعارف التي سيحصلون عليها خلال الدراسة هي التي ستحدد نجاحهم ومستقبلهم المهني ولذلك لا تنتشر الرشوة هناك في مجال التعليم العالي، أما الشهادة الجامعية في روسيا فهي بالنسبة لعديد من الطلاب عبارة عن "وثيقة" تسمح له بالعمل، في حين يعتقد الكثير من المدرسين أن الرشوة هي حق مشروع لهم وأمر طبيعي للغاية. ويبقى الفساد هو عدو روسيا الأول فهو لا يمس فقط مجال التعليم بل يتغلغل في كافة مجالات المجتمع وذكر المجلس الاجتماعي الروسي في تقرير له في العام قبل الماضي أن الفساد في البلاد وصل لمستويات اخذ معها يهدد نظام الدولة نفسه، ولذلك ليس صدفة أن الرئيس المنتخب دميتري مدفيديف قد أكد على أن احدى مهامه الرئيسية هي مكافحة الفساد.