جاءت إلى عيادتي احدى الأمهات البائسات، وهي محبطة والدموع منحبسة في عينيها تارة وربما طفرت الدمعات تارة اخرى!! أذكر ان اول جملة قالتها لي (لا أعرف لماذا يتعمد ان يقهرني؟!) وفي البداية تبادر إلى ذهني انها تشتكي من زوجها!! إلا ان ام سعد اكملت بقولها (والله انا ماقصرت عليه بشيء وفرت له كل شيء يريده، فاعطيته حنانا وحبا وبيتا جميلا واثاثا فاخرا، فلماذا يخرب كل شيء تقع يده عليه) فظننتها زوجة عاملة وتنفق على زوجها العاطل، ولكني لم استسغ هذا التفسير فاضطررت إلى سؤالها (عن من تتحدثين ياسيدتي؟؟)، فقالت : انه ابني سعد، يحب التخريب وتكسير الأثاث وتفكيك الألعاب وتمزيق الستائر والرسم على الجدران!! هو يعرف اني اغضب منه كثيرا واعاقبه اكثر، لكنه لا يكف ولا يرعوي!!.. @@ والحقيقة ان نزعة الأطفال إلى التخريب والاتلاف والتحطيم مشكلة تعاني منها غالبية الأسر، ولكن الغالب الأعم منها لم تتوصل إلى الأسباب الحقيقية وراء هذا الجنون الصبياني!! @@ فلو افترضنا ان السبب هو عدم وجود الرادع القوي من عقاب وهجر وحرمان، فالإجابة خاطئة، كون العينة اجابت كلها بأنها جربت جميع طرق العقاب!!، ولو افترضنا ان السبب هو تشجيع الأطفال بعضهم بعضا على الإفساد لغرض المرح، فما هو جواب كون كثير منهم يقوم بالتحطيم في حال غيابه عن اعين الجميع ووحده دون معين أو مشجع؟، ولو افترضنا ان مستوى الذكاء المنخفض له دور، فالإجابة ايضا خاطئة، لكون جميع هؤلاء الأطفال مستوى ذكائهم فوق الجيد، بمعنى ان هذا التخريب والتحطيم لم ينطلقا من منطلق حمق أو غباء ورغم ذلك يقدمون على أفعال لا يستسيغها عاقل!!.. @@ ولو افترضنا ان هؤلاء الأطفال لا يريدون الإفساد بعينه وانما هو نوع من ممارسة الهواية والتعبير الإبداعي والفني كما هي الحال في الرسم والشخبطة على الجدران، اذن فما تفسير انهم عندما ينتهون من الشخبطة على الجداران يجرون إلى الستائر لتمزيقها ومن ثم إلى المطبخ لتحطيم صحن أو صحنين ثم ينتقلون إلى المجالس لتمزيق ورق الجدران وحفر الجبسيات وقطع ماتدلى من الكريستال!! وبعد ذلك يأتي دور المكتبة لتمزيق ماتيسر من الاوراق ونزع جلادات الكتب والعبث بمحتويات المكتب من احبار ودبابيس واقلام، فهل كل هذه الأعمال تعبير عن ابداع وفن أو طرق مبتكرة لصقل مواهب مدفونة؟! @@ لكن علماء النفس والتربية يستطيعون ايجاز الدوافع من ناحية نفسية وتربوية حيث ان الأطفال يدفعون إلى التخريب عند شعورهم بحاجة إلى شيء يريدنه، أو احساسهم بالحرمان من شيء يحبونه!!، وفي بعض الأحيان يعبث الأطفال بشيء ما بهدف إرضاء خيالاتهم الطفولية، لأنهم يتمتعون بقدرة فائقة على التخيل وقد يقدمون على التخريب من أجل تحقيق هاتيك الأوهام والتخيلات!!، ولا نغفل كذلك غريزة حب الاستطلاع لدى الطفل فربما لجأ أحياناً إلى التخريب بسبب حب الاستطلاع والتقصي ومعرفة حقيقة الأشياء وتجريبها والتعامل معها، دون أن يقصد التخريب لذاته. وربما لجأ الطفل إلى التخريب أحياناً بسبب رغبته في التملك الحقيقي والاستفراد بالشيء فيشعر بعدم القدرة على ذلك، فيحطمه كنوع من الاثبات بانه قادر ومالك ومتحكم، @@ واخطر من هذا كله عندما يكون الدافع هو الاضطراب النفسي أو الوجداني بسبب اختلال الاتزان العاطفي لديه بفقدان عزيز أو انجراح كرامته أو انكسار عاطفته أو اكتشاف واقع مؤلم، أو انكسار نفسه بسماع تأنيب أو إهانة أو ضرب فيضطر تبعا لذلك ان ينفّس عن انفعالاته وغضبه وغيظه بالشغب والتحطيم لاراحة نفسه ورد اعتباره اولا، ولغرض لفت الانتباه إلى مشكلته التي يحس ان الجميع في انشغال عنها ثانيا!!. @@ وربما كان الدافع الخفي وراء هذا التحطيم هو غيرة وحسداً قد غلفتا قلب الطفل الصغير فقام بطريقة لا يفهم غيرها ولا يقدر على سواها، تعبيراً عن احتجاجه على اهتمام الآخرين بطفل آخر.. @@ وربما كان الإحباط واليأس وخيبة الأمل هي المحرك الأول لهذه الأفعال فالطفل يبني آمالاً كبيرة على أبويه ويعتبرهما الملجأ الأول والأخير في حياته، فإذا شعر بأنهما لا يعيرانه أهمية ويبخلان عليه بالعطف والمحبة، اصابه اليأس والإحباط، ولم يكترث لعواقب أفعاله وتصرفاته. وفي المقالة القادمة نُتم الحديث عن الأسباب العضوية والاجتماعية والشخصية المحتملة لهذه التصرفات، وعلى دروب الخير نلتقي..