فُجعنا يوم الاثنين الماضي بذلك الخبر الذي نشرته الجريدة حول تسليم أحد المواطنين في العقد الرابع من عمره نفسه للجهات الأمنية بشرطة منطقة الرياض عقب تورطه في ضرب ابنته ذات الاثني عشر عاماً حتى فارقت الحياة بداعي تأديبها!! وكنت قد طالبت في مقال سابق بضرورة إعادة النظر في الطريقة التي تتم بها حضانة الأطفال عند تنازع الأبوين عليهم، وخصوصاً في هذا الزمان الذي أصبحنا نقف حائرين من كثرة تلك الأخبار المفجعة التي يروح ضحيتها فتياتٌ في عمر الزهور إشباعاً لرغبة انتقامية مريضة من قبل أشخاص لم يردعهم دينٌ أو خُلق، ولم تعرف الرحمة لقلوبهم طريقاً. ولقد وردتني العديد من الرسائل والاستفسارات بعد مقالي السابق حول الطريقة التي تمّت بها تسليم الطفلة لوالدها - غير السوي - مع أن والدتها ذكرت للقاضي بعضاً من تصرفاته التي تدل على فساد طويته، وإجرام متأصل في نفسه. وفي حقيقة الأمر أني لا أجد مبرراً للحكم بالحضانةِ للأب إذا ثبت أنه غيرُ أهل للحضانة.. لكني في الوقت نفسه لم أطلع على تفاصيل تلك القضية إلا من خلال مشاهدتي لما كُتب عنها في الصحف، وما ورد عن وزارة الداخلية من البيان الصادر بقتل والدها وزوجته. وإن كنت ألتمس العذر لإخواني أصحاب الفضيلة القضاة في المحاكم العامة في المدن الكبيرة الذين تُعرض عليهم عشرات القضايا يومياً ، إلا أن قضايا الحضانة تحتاج لتأن وتثبّت أكثر.. فما الفائدة الآن؟؟ وهل سترجع غصون إذا تم الاعتراض على الحكم ونقضه أو تأييده؟؟ وإن كنتُ صراحةً لا ألقي اللوم على إخواني القضاة بقدر ما ألقي اللوم على وزارة العدل في عدم الاستعانة بالخبراء لكتابة التقارير ورفعها للقضاة قبل الحكم بالحضانة للزوج أو طليقته. فلماذا لا يكون في كل محكمة عددٌ من الباحثين الاجتماعيين والمتخصصين بالشريعة وعلم النفس والإجرام للوقوف على حالة هذا الأب أو الأم الطالب للحضانة ودراسة حالته من واقع حياته الاجتماعية في حيّه، وسكنه، وعمله، ومسجده، وعلاقاته الاجتماعية مع زملائه في العمل، وبينه وبين جيرانه في السكن، والنظر في صحيفة سوابقه.. ألخ. ثم بعد التأكد من واقعه يتم كتابة تقرير يرفع لأصحاب الفضيلة القضاة ويكون مستنداً للحكم بالحضانة من عدمها. وليس في هذا ما يخالف الأنظمة أو التعليمات؛ بل نص نظام المرافعات الشرعية الصادر بالمرسوم الملكي رقم م/ 21وتاريخ 1421/5/20ه في المادة السابعة والثلاثين بعد المائة على أنه: (يجوز لوزير العدل أن يعيّن موظفين يتفرغون لبعض أعمال الخبرة لدى المحاكم). بل إن النظام نفسه نصّ في المادة السادسة الثلاثين بعد المائة على أن: "تؤلف بقرار من وزير العدل لجنة للخبراء، وتحدد اللائحة التنفيذية اختصاص هذه اللجنة وأسلوب مباشرتها اختصاصها". فما المانع إذن من الاستعانة بمَنء ذكرنا للتأكد من صلاحية الأب أو الأم للحضانة من عدمها؟؟ وكم من امرأة عانت من زوج مدمن أو مريض أو معتوه طلبت الخلع منه ثم بدأت معاناتها في طلب النفقة والحضانة، وإقناع القاضي بعدم صلاحية مطلقها للحضانة، ومماطلته في أداء النفقة. ثم هل تستطيع أغلب النساء رفع الدعاوى وفهم إجراءات التقاضي والحضور لجلسات المحاكم؟؟ والله تبارك وتعالى يقول: (أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الءحِلءيَةِ وَهُوَ فِي الءخِصَامِ غَيءرُ مُبِين). سورة الزخرف آية 18.وهل تستطيع النساء - المبتليات بأزواج مرضى - وخصوصاً في ظل تعاطي هذه السموم التي تؤثر في العقول، والإدمان على المسكرات والكحول، وفي ظلِّ تلك الضغوطات النفسية التي يعيشها البعض لظروف مالية أو نفسية أو اجتماعية فيفقدون السيطرة.. ويختّل عندهم التوازن.. هل تستطيع النساء إثبات صلاحية ذلك الأب للحضانة من عدمها؟؟ وما الآلية المتبعة اليوم لدى أصحاب الفضيلة القضاة للتأكد من صلاحية ذلك الأب أو الأم للحضانة؟؟ وهل هناك خصوصية لتلك القضايا في الاستعجال في النظر فيها أم لا؟؟ أسئلةٌ حيرى تحتاج لإجابة واضحة. إلا أننا نتفاءل كثيراً بعد صدور نظام القضاء الجديد، الصادر بالمرسوم الملكي رقم م / 78بتاريخ 1428/9/19ه والذي خصص لقضايا الأحوال الشخصية من زواج وطلاق وخلع، ونفقة وحضانة.. محاكم خاصة هي محاكم الأحوال الشخصية يتفرغ بها عددٌ من القضاة للنظر فقط في تلك القضايا والتركيز فيها بدلاً مما هو معمولٌ به اليوم وفيما مضى من الزمان؛ إذ ينظر القاضي أنواعاً من القضايا منها الجنائي، ومنها الحقوقي، إضافةً إلى قضايا الأحوال الشخصية. وإن كنا لنرغب في افتتاح أقسام نسائية في محاكم الأحوال الشخصية يُعيّن فيها خريجات الشريعة والأنظمة، ويكون دورها في استقبال المرأة المشتكية، وسماع دعواها وتحريرها، ثم عرضها على القاضي؛ إذ لا يمكن للمرأة - بطبيعتها - أن تفصح عن بعض ما يدور في واقعها من مشاكل، فمشاكل الزوجية وما يدخل في نطاقها من العيوب الخلقية لدى الزوج الموجبة للفسخ، وما يترتب عليها من النفقة، وحضانة الأولاد في حال وجودهم، ومشكلة العضل والمنع من الزواج أو تأخيره بسبب تسلط ذلك الولي الظالم؛ قد لا تستطيع المرأة أن تبثّ تفاصيل شكواها تلك مباشرة أمام رجل غريب عنها. كما أن على وزارة العدل الدور الكبير في دراسة مسائل الحضانة وأقوال العلماء فيها، وتحرير تلك المسائل، والنظر في الاجتهادات الفقهية المناسبة لهذا العصر، من قبل مجموعة من العلماء المختصين ممن مارسوا العمل القضائي وعايشوا هموم الناس ومشاكلهم، ثم عرض تلك الدراسات وإطلاع قضاة محاكم الأحوال الشخصية عليها؛ إذ من المعلوم أن القضاة ومع ضغط العمل الحاصل عليهم قد لا يتفرغون للدراسات المتعمقة في بعض المسائل، فلا بد من التعاون الجاد من الجميع للارتقاء بالعمل القضائي وخصوصاً ووزارة العدل تفرّغ العديد من منسوبيها للدراسات والبحوث. ورحم الله الفقيه الحنفي ابن عابدين الذي قال في حاشيته عن موضوع الحضانة ومن يصلح لها: "ينبغي للمفتي أن يكون ذا بصيرة يراعي الأصلح للولد، فإنه قد يكون له قريب مبغض له يتمنى موته، ويكون زوج أمه مشفقًا عليه يعز عليه فراقه، فيريد قريبه أخذه منها ليؤذيه ويؤذيها أو ليأكل من نفقته أو نحو ذلك، وقد يكون له زوجة تؤذيه أضعاف ما يؤذيه زوج أمه الأجنبي، وقد يكون له أولاد يخشى على البنت منهم الفتنة لسكناها معهم فإذا علم المفتي أو القاضي شيئًا من ذلك فلا يحل نزعه من أمه لأن مدار أمر الحضانة على نفع الولد". ويقول ابن قدامة - رحمه الله -: "والحضانة إنما تثبت لحظ الولد فلا تشرع على وجه يكون فيه هلاكه وهلاك دينه"، "المغني" (190/8). ويقول ابن القيم: "على أنا إذا قدمنا أحد الأبوين فلا بد أن نُراعي صيانته وحفظَه للطفل، ولهذا قال مالك والليث: إذا لم تكن الأم في موضع حرز وتحصين، أو كانَتء غيرَ مرضية، فللأب أخذُ البنت منها، وكذلك الإِمامُ أحمد رحمه اللّه في الرواية المشهورة عنه، فإنه يعتبر قدرتَه على الحفظ والصيانة. فإن كان مهملاً لذلك، أو عاجزاً عنه، أو غيرَ مرضي، أو ذا دِياثة والأم بخلافه، فهي أحقُّ بالبنتِ بلا ريب، قال شيخنا: وإذا ترك أحدُ الأبوين تعليم الصبي، وأمره الذي أوجبه اللّه عليه، فهو عاص، ولا وِلاية له عليه، بل كُلُّ من لم يقم بالواجب في ولايته، فلا ولاية له، بل إما أن تُرفع يدُه عن الولاية ويُقام من يفعل الواجب، وإما أن يُضم إليه مَنء يقومُ معه بالواجب، إذ المقصودُ طاعةُ الله ورسوله بحسب الإِمكان.. فلو قدر أن الأب تزوج امرأة لا تراعي مصلحة ابنته، ولا تقوم بها وأمها أقوم بمصلحتها من تلك الضرة، فالحضانة للأم قطعاً". "زاد المعاد" (424/5). وقال الشيخ عبدالرحمن السعدي: "فأما إذا أهمل أحدها ما يجب عليه من حضانة ولده وأهمله عما يصلحه فإن ولايته تسقط ويتعين الآخر". "الفتاوى السعدية" (ص 535). نسأل الله تعالى أن يوفق قضاتنا للحكم بالعدل، وأن يفضح الله من أراد انتقاماً أو إذلالاً لمطلقته أو زوجته، وأن يلهمنا الصواب، وأن ييسر لأخواتنا سبل التقاضي والظفر بحقوقهن، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. @ باحث قانوني [email protected]