حقيقة ترددت كثيراً قبل كتابة هذا المقال ؛ ففي كل مرةٍ أمسك قلمي لا استطيع أن أوفي الموضوع حقه، فالحادثة أكبر من أن نناقشها في ضوء الأنظمة والقوانين، إنها حادثةٌ أبشع من أن يُتكلّم عنها، حقيقةً لا أخفيكم أني في كل مرةٍ أنوي الكتابة في هذا الموضوع لا استطيع.. نعم لا استطيع أن أكتب في موضوعٍ اغتيلت فيه براءة الطفولة الجميلة.. تجردت فيه معاني الإنسانية من أشخاصٍ لم تعرف الرحمة لقلوبهم طريقاً.. أشخاصٌ لا يستحقون لقب الأبوة ؛ بل لا يستحقون معنى الإنسانية.. لقد عشت في صراعٍ دائم مع نفسي طيلة الشهرين الماضيين ؛ فمذ أن سمعت بيان وزارة الداخلية في اليوم الثامن من شهر الله المحرم لهذا العام 1429ه حول تنفيذ حكم القتل تعزيراً في جانيين (أبٍ وزوجته) أقدما على قتل طفلةٍ لم تتجاوز التاسعة من عمرها وأنا أعيش في غمً وهمّ.. وفي كل مرةٍ أعزم على الكتابة في هذا الموضوع إلا و تخنقي العبرات، وتتحشرج الكلمات في صدري لا استطيع التعبير عنها إلا بلغة الدموع.. كيف يجرأ إنسانٌ على ارتكاب مثل هذا؟؟ أقول إنسان فضلاً عن كونه مسلماً يؤمن بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً، القائل عليه الصلاة والسلام: "دخلت امرأة النار في هرة حبستها لا هي أطعمتها ولا سقتها ولا تركتها تأكل من خشاش الأرض" !! أخرجه البخاري (152/4) كتاب الأنبياء. ومسلم (2022/4) رقم (2242). ولم أكن أنوي الكتابة في هذا الموضوع وتذكير الناس بوقائعه المؤلمة إلا حين قرأت خبراً صباح أمس يفيد عن نظر قضاة المحكمة العامة بمدينة جدة لائحة الدعوى التي تقدم بها المدعي العام، والمدعي بالحق الخاص في المطالبة بالحكم بالقتل على أبٍ (إن صحت التسمية) وزوجته قاما بتعذيب طفلةٍ في عمر الزهور حتى الموت، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.. فبالأمس غصون.. واليوم أريج.. وستكرر الضحايا إن لم نجد ردعاً زاجراً لهؤلاء الجناة، فضلاً عن تمكينهم من حضانة أطفالٍ ليوقعوا بهم صنوف العذاب.. وإن كنا نشكر قضاة المحكمة العامة بمكة المكرمة - وفقهم الله - على حكمهم بالقتل تعزيراً على والد غصون وزوجته، إلا أننا نتساءل عن المتسبب في تسليم الضحية لقاتلها.. كيف يتم الحكم لهؤلاء المجرمين بحضانة أطفالهم؟؟.. كيف يتم تسليم الضحايا لقتلتها ليتولوا تعذيبهم كيفما شاءوا وفي أي وقتٍ أرادوا؟ وإن كنتُ صراحةً لا ألقي اللوم على إخواني فضيلة القضاة الذين ينظرون عشرات القضايا يومياً، ولا يعلمون ما تخفي قلوب الناس خلف أجسادهم المريضة، بقدر ما ألقي اللوم على عدم الاستعانة بالخبراء قبل الحكم بالحضانة للزوج أو طليقته.. فلماذا لا يكون في كل محكمة عددٌ من الباحثين الاجتماعين والمتخصصين بعلم النفس والإجرام للوقوف على حالة هذا الأب أو الأم الطالب للحضانة ودراسة حالته من واقع حياته الاجتماعية في حيّه، وسكنه، وعمله، ومسجده، وعلاقاته الاجتماعية، وصحيفة سوابقه.. ثم بعد التأكد من واقعه يتم كتابة تقريرٍ يرفع لأصحاب الفضيلة القضاة ويكون مستنداً للحكم بالحضانة من عدمها.. وليس في هذا ما يخالف الأنظمة أو التعليمات، والتي تنص على جواز أن يستعين القاضي بأعوانٍ وخبراء ليكتبوا له تقاريرَ في أمور فنية، أو يقدّروا شجاجاً، أو يقيّموا جرحاً، أو ينظروا في معالم أرضٍ وحدودها وأطوالها.. أو ليست حياة الأطفال أهمّ من ذلك وأولى؟؟.. فعلا إنه تساؤل مؤلم.. ويزداد ألمي وتعظُم حسرتي وأنا أقرأ تلك الكلمات الحزينة التي خرجت من قلبٍ مكلوم على فلذة كبدها ؛ حين اقرأ ما نطقت به والدة غصون، تقول - جبر الله مصابها: "تصرفاته المريعة - تعني قاتل غصون - كانت فوق طاقتي لم استطع الاحتمال للبقاء معه كزوجة.. كان يعاملني بقسوة ولا يكف عن ركلي ورفسي وربطي بالسلاسل، وأثناء حملي لغصون توسلت إليه أن يتوقف عن ضربي ورفسي على بطني خوفاً على الجنين لكن يبدو أن الموت على يده.. كان يتربص بها منذ أن كانت جنيناً حتى أتاها بلا رحمة وهي تعيش في بيته مع زوجته الثانية". ثم تقول: "أرى ابنتي غصون - رحمها الله - في المنام دائماً تطالب بالقصاص من والدها وزوجته، و من المستحيل أن أنساها لأنني اعرف تماماً حجم العذاب الذي تعرضت له بعد أن تجرعتُ مرارة العذاب من والدها، لكن الله كتب لي عمراً جديداً بانفصالي عنه". ومما زاد ألمي وحزني ما قرأت في أحد الصحف من أن غصون - رحمها الله - "كانت تتوسل والدها بعد أن كسرت يدها اليمنى جراء الضرب العنيف بأن ينقل السلسلة الحديدية التي يقيدها بها إلى يدها اليسرى.. لكنه كان يسخر من توسلاتها متجرداً من كل قيم إنسانية". أفيستحق أمثال هؤلاء المجرمين الحياة.. فضلاً عن أن تصدر لهم أحكامٌ شرعية تخوّلهم بحضانة أطفالٍ في عمر الزهور؟؟.. هل نقف مكتوفي الأيدي أمام هؤلاء المرضى المتجردين من معاني الإنسانية حتى يرتكبوا جرائمهم ثم نبحث عن أدلةٍ لاتهامهم ومعاقبتهم؟؟.. وهل نستسلم لهؤلاء المجرمين المعتدين الذين يحوّلون أطفالهم وسائل انتقامية من زوجاتهم ومطلقاتهم؟؟.. أين ضمائر هؤلاء القتلة؟؟.. أليسوا بشراً لهم أحاسيس ومشاعر؟؟.. إن العاقل السوي ليتألم أشد الألم حين يرى طفلاً يبكي ولو لأمر بسيط.. فما بال هؤلاء لا يتألمون وهم يقتلون أبناءهم وبناتهم صبراً؟؟.. وكان مما نص عليه بيان وزارة الداخلية ذلك اليوم أن هذا القتل نوعٌ من القتل صبراً، وقد عظّم الشارع قتل البهائم صبراً فكيف بالآدمي، وهي كالأسير والمحبوس لا حول لها ولا قوة فلا تستطيع الدفاع عن نفسها ولا الهرب... جاء في لسان العرب: "والصَّبءرُ نَصءب الإِنسان للقَتءل فهو مَصءبُور وصَبءرُ الإِنسان على القَتءل نَصءبُه عليه. يقال قَتَلَه صَبءراً وقد صَبَره عليه وقد نَهَى رسول الله صلى الله عليه وسلم أَنء تُصءبَرَ الرُّوح". وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم أَنه نَهَى عن قَتءل شيء من الدَّوابّ صَبءراً. قيل: هو أَن يُمءسك الطائرُ أَو غيرُه من ذواتِ الرُّوح يُصءبَر حَيّاً ثم يُرءمَى بشيء حتى يُقءتَل. وقتل الصبر هو أن يربط الإنسان أو الحيوان ويقتل. وجاء في الحديث أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم نهى عن قتل شيء من الدواب صبراً، وهو أن يمسك شيء من ذوات الأرواح حيّاً ثم يرمى بشيء حتّى يموت. وأخرج أبو داود عن أبي يعلى قال: غزونا مع عبد الرحمن بن خالد بن الوليد فأتى بأربعة أعلاج من العدو فأمر بهم فقتلوا صبراً بالنبل. فبلغ ذلك أبا أيوب الأنصاري رضي الله عنه فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن قتل الصبر فو الذي نفسي بيده لو كانت دجاجة ما صبرتها فبلغ ذلك عبد الرحمن فأعتق أربع رقاب. فإذا كان الإسلام يحرّم قتل البهائم صبراً فكيف بالأطفال؟؟.. وسنلتقي بمشيئة الله الأسبوع القادم لنستكمل بقية أطراف هذا الموضوع المؤلم المفجع.. يقول الله تبارك وتعالى (أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الءحِلءيَةِ وَهُوَ فِي الءخِصَامِ غَيءرُ مُبِينٍ) سورة الزخرف آية 18.نسأل الله تبارك وتعالى ألا يرينا مكروهاً في كبير أو صغير، وأن يهيئ لنا من أمرنا رشداً، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. @ باحث قانوني