حديث الروح، همسات وذكريات واسترجاع لماض جميل وذكريات خالدة في الذهن ومواقف وعبر ودروس ونصائح و... و.. كل ذلك وأكثر أستحضره وأراجعه عن عمي معالي د.صالح بن عبدالله المالك، كل ما أقرأ عنه وله، كل ما أسمع عنه ومنه، كل ما أزوره، كل ما يخطر ببالي وفكري وإن كان لا يغيب أبداً .. تعود بي الذكريات لمواقف كثيرة ومحطات جميلة في الحديث والكتابة عن عمي أبي هشام، هذا الرجل الذي لا يمل حديثاً ولا يُمل حديثه، كم كان يجمعنا وأبناء عمومتي في مقتبل أيام الدراسة ليشعرنا بأهمية التحصيل والتعليم، وكيف أن هذا عائد لنا ولبلدنا بالخير العظيم، ذات يوم كنا وقتها في المرحلة المتوسطة والثانوية جمعنا وقال لنا ليس صحيحاً بأن تضيعوا كل وقت إجازة الصيف المدرسية الطويلة بالسفر بين الرياضوالرس في لهو وضياع، اني رتبت لكم دراسة صيفية في بريطانيا لتتعلموا اللغة الانجليزية "لغة العلم في هذا العصر"، وأصر علينا بالسفر مع تخوفنا في ذلك الوقت، حيث لم يسبق أن سافرنا وحدنا، فكانت أولى رحلاتنا خارج البلاد العربية، ذهبنا وبتخطيط منه ولسنوات متتالية في كل صيف إلى بريطانيا، هل تذكر يا عم صاحبك شوستاك "أبوصنادح" الذي رتبت معه في أول رحلة لنا أن يقابلنا بالمطار ويأخذنا لمدارسنا وعوائلنا الصيفية؟ لقد كانت تجربة ناجحة وخطوة سليمة في الطريق الصحيح، وللعلم فلقد طبقتها يا عم مع أولادي، فهم في كل صيف في دراسة لغوية خارجية. كم كان يدفعنا دفعاً بأن لا نكتفي بالشهادة الجامعية، بل يجب أن نواصل دراستنا العليا، ليس ذلك فحسب، بل كان يطالبنا بتخصصات في مجالاتنا تكون أكثر دقة وعلماً. عندما يحدثك عن بلادنا وأنظمتها وتخطيطها، بل وحاجتها لسواعد أبنائها لصيانة مكتسباتها وقدراتها وتراثها وثرواتها يشعرك بلا أدنى شك بواجبك الوطني لبلدك وكيف أن جيلاً قبلنا اجتهد وعمل وضحى لوصول بلدنا إلى ما نحن فيه من خير ورخاء ويفرض على جيلنا واجباً بأن نعطي ونقدم أفضل لينعم البلد بما هو أجمل وأجدر. @ @ @ زرت شقيقي طارق في منزله وعند تناولنا القهوة سألته الأسئلة المعتادة، كيف الحال؟ وما الأخبار؟ فأجاب بشعر المتنبي ودمعه في عينه: طوى الجزيرة حتى جاءني خبر فزعت فيه بآمالي إلى الكذب فلما لم يدع لي صدقه أملاً شرقت بالدمع حتى كاد يشرق بي فسألته والدمع يملأ عيني باكياً، ما الأمر؟!.. فأجابني مشاوراً بإصبعه شرقاً حيث يسكن عمي بأن عمنا د.صالح قد شخصوا الأطباء حالته بمرض عضال وأنه يستعد برعاية ملكية للذهاب إلى أمريكا للعلاج هناك. وتساءلت للعلاج هناك! ومستشفياتنا وأطباؤنا والأمل المعقود فيهم. يا لفرحة عمّي عندما أخبرته برغبتي وبقبولي بجامعة الملك سعود للدراسة في المجال الطبي، وكنت كذلك سعيداً وفخوراً بذلك وقال لي يومها إن بلادنا بحاجة ماسة لأبنائها في هذا المجال، فجميع مجتمعات البشر تنظر لفئة الأطباء بالتقدير والتميز والاحترام، وبأنهم أهم طبقات المجتمع المدافع عنه من شر الأمراض والأوبئة. فبالرغم مما يبذل العالم أجمع من بحوث وتجارب وأدوية وعلاج ومال وكثرة الأطباء والعلماء والباحثين، فحتى يومنا هذا نقف صغاراً وضعفاء أمام هذا المرض العضال، وبرغم كل هذا الزهو للأطباء إلا أنني أستصغر نفسي والطب كله أمام هذا المرض، كيف نقف نحن الأطباء حتى يومنا هذا عاجزين بل متفرجين على هذا العدو الذي ينهش في البشر ويقطف كيف وأنى شاء، بل يختار نخبة الأمم وخيرة الرجال. @ @ @ عودة لأصل الموضوع وهو الحديث عن عمي د.صالح والذي لا أظنني أضيف جديداً بالكتابة عنه فقد سبقني في ذلك من هم أجدر مني، وهو أهل لكل جميل، فالجميع ومنذ القدم يطيب لهم الحديث عن صفوة الرجال، أليس الكل يستمتع بالحديث عن رجال خلدهم التاريخ، وسارت إلينا أخبارهم ومواقفهم؟ جرت العادة بأن يكتب عن هؤلاء النجباء، وتذكر محاسنهم بعد وفاتهم، أما ان تقرأ هذه الكتابات والعبارات مع تلك الدعوات بالشفاء والتذكير بالمناقب والفضائل فذلك توجه بالطريق الصحيح، مع أن ما ما يعرف ويذكر عنه أكثر بكثير مما كُتب فيه، شخصية مميزة ومحبوبة، تجبر الجميع على احترامه والاستماع والاستمتاع بأخباره وقصصه وهذه الأيام بالسؤال عنه والدعاء له. إن الجميع يتناسون أنفسهم أمامه للسؤال والاطمئنان، لا أبالغ إذا قلت لكم إنني في عيادتي وعند معاينتي لمرضاي، أسأل دائماً من قبلهم، ماذا تكون للدكتور صالح، فعندما أجاوبهم بأنه عمي، تنهال عبارات الثناء والمدح والدعوات له، ثم ينسى هؤلاء المرضى الهدف من مجيئهم للعيادة، فبدلاً من الانشغال بأنفسهم وذكر عارضهم وشكواهم، ينسون كل ذلك ليتحدثوا عن موقف لهم مع أبي هشام، وكيف أن هذا الرجل وهب نفسه للوطن وللمجتمع، للنظام، للشورى، للعلم، للأدب، للمؤسسات الدينية والاجتماعية والرياضية والفكرية والإعلامية، ثم يختمون حديثهم مرة أخرى بالدعاء له بالشفاء. إننا في أرض الوفاء والإحسان وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان، والوفاء إلا الوفاء، ما هذه الدعوات لك بالشفاء والزيارات والكتابات إلا وفاء لك ولعمل قدمته طول مشوار حياتك، ان هذا العطاء والوفاء منك لأهلك وبلدك ولحكام هذا البلد هو محل تقدير الجميع، وما زيارة ولاة أمر هذا البلد المستمر لك في المستشفى وسؤالهم الدائم عنك بالاتصال بك، وسؤالهم لنا أقاربك عنك إلا رمز وفاء من أهل الوفاء، واستشهد بأمير الوفاء سلمان بن عبدالعزيز برغم حجم مشاغله ومسؤولياته يزورك أكثر من مرة للاطمئنان عليك ومتابعة وضعك الصحي. هل كان حكامنا يعلمون بما كنت توصينا به دائماً من الالتفاف حولهم وشد أزرهم ووضع أيدينا بأيديهم والوفاء والصدق لهم لما فيه خير الوطن والمواطن، كم نحن فخورون بحفظنا للوعد وصادق العهد مع من على يدهم نهضت البلد وارتقى المواطن بل إننا فخورون كذلك ولله الحمد ثم لمدرستكم وأعمامي جميعاً بأنه وبرغم وجود أبناء ملتزمين بدينهم لم يكن بيننا متطرفون ومتزمتون، وبرغم وجود أبناء متعلمين وذوي فكر ورؤية لم يكن بيننا معارضون أو مناهضون لحكومتنا، وبفضل جهودكم لم تعرف أسرتنا للرذيلة طريقاً ولا للسجون باباً، وسنستمر يا عم في علمنا وعلونا وتواصلنا والالتفاف مع حكامنا مع كل العوائل السعودية لتقديم كل ما نستطيع لهذا البلد الغالي وحكامه وأهله، والأيام حبلى. إنني إذ أذكر أسرتي فما هي إلا لبنة من البنيان المرصوص للشعب السعودي الذين يقدمون الأسوة الحسنة والقدوة المثالية للمجتمع الذي يزخر بعوائل وأسر ذات سيرة عطرة وسلوك حميد وهم الأكثرية بفضل الله، ودعوة أيضاً لأسر أخرى وهم قلة جداً بأن يتداركوا أبناءهم ويحتضنوهم ويراجعوا سلوكهم وتوجههم. كل هذا حرصاً على صيانة المجتمع ليستمر على هذا النهج المميز وحفظاً له مما لا تحمد عقباه مما شاهدناه ولمسناه للأسف من نزر من شباب مجتمعنا من سوء سلوك وإرهاب وتكفير وخروج على ولاة أمرنا والقيم والمجتمع والأنظمة. @ أتذكر عند مهاتفتي قبل الفجر لك وأنت في أمريكا للسؤال عن صحتك، بادرتني بالسؤال ما الذي أيقظك هذا الوقت "الساعة الثالثة صباحاً في الرياض" فأجبتك بأن والدتي تزورنا هذه الأيام وصحوت على صوتها وحركتها لأن لها عادة قيام الثلث الأخير من الليل للصلاة والدعاء، فقلت هنيئآً لنا المالك بهذه المرأة الصالحة، إن أحد أسرار نجاحك يا بني هو دعاء أمك لك، أقرئها سلامي واسألها الدعاء لي بالشفاء في صلاتها، إنها امرأة مجابة الدعاء، وهذا الوقت هو واحد من خمسة لإجابة الدعاء، نعم يا عم ستدعو لك أمي العنود، وسيدعو لك نساء وأطفال وشيوخ ورجال وكل من عرفك، عودة للمكالمة الهاتفية سألتك ما الجديد لديهم، أتذكر جيداً قولك لي "اسمع وانا عمك، انت يا منصور طبيب وسوف اشرح لك بالتفصيل مراحل العلاج وما أوصى به الأطباء وأشاورك بما ترى وبما يجب علي عمله وبما تنصح، كم هي مؤلمة عظيمة ومسؤولية جسيمة بأن نقول لك كما قالوا "قد لا يمكن بالإمكان أكثر مما كان". وفي الحديث عن المرض والأمراض، كان لابد لي من هذه المداخلة على مقالي، حيث بحكم عملي بين عيادات وعنابر المستشفيات كانت لي قصة طريفة مع مريض زرته، فبادرني بسؤال هل المرض نعمة أم نقمة؟! فكان ردي سريعاً أنه بالتأكيد ليس بنعمة، ونحن دائماً نسأل الله موفور النعم ونسأله حمايتنا من الأمراض، فالله يهب النعم ولا يهب المرض، انظر إلى قوله تعالى (ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك) (النساء 79)، وانظر إلى قوله تعالى على لسان إبراهيم "الذي خلقني فهو يهدين، والذي هو يطعمني ويسقين وإذا مرضت فهو يشفين، والذي يميتني ثم يحيين والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين" (الشعراء 77- 82)، فكل الأعمال الخيرة: خلقني - يهدين - يطعمني - يسقين - يشفين - يميتني - يحيين - يغفر لي، نسبها أبونا إبراهيم لله عز وجل واستثنى المرض فلم يقل يمرضني، بل نسب المرض للإنسان فقال (وإذا مرضت) ففعل الشرط المرض من الإنسان وجوابه الشفاء من الله تعالى. تركت مقالتي في مكتبي وكعادة الزوجات (وتأدباً لن أقول تفتيشاً بل متابعة أمور وأوراق أزواجهن) قالت: قرأت مقالتك، جميلة ولكنك لم تضف فيها مع قربك منه أي جديد في شخصيته العظيمة فقلت : يا أم فهد هو كتاب مفتوح للجميع، ليس لدي جديد أو أسرار أضيفها هل تصدقين بأن بعض ما ذكرت عنه، رويته عن بعض الأصدقاء وليس الأقرباء؟ لا أريد أن أطيل في مقالتي حتى لا تصابوا بالملل وتتحول من مقالة إلى كتاب، وإن كان الكتاب لا يمكن أن يفيَه حقه الذي هو أهل له. كتبت مقالتي هذه بأسلوب حديث عمي فهو دون ملل ينقلك من موضوع لآخر يوجه الحديث تارة لك وتارة لغيرك ويفهمه آخرون في حديثه دائماً ذكر لآيات، أحاديث، معلومات، ذكريات، أحداث، طرفات، اشعار، وأخبار. إن وجدتم ذلك في مقالتي فلأني لازمته كثيراً وتعلمت منه فادعو له معي وإن لم تجدوه فادعوا له معي أيضاً بالشفاء وطول البقاء حتى نلازمه جميعاً فنتعلم منه أكثر وأجمل.. أحسست بمقالتي بأنني ضمنتها كل ما يحب عمي وعند قراءتي لها قبل نشرها وجدت أنني لم أتطرق لأمور كثيرة فلم أذكر مسقط رؤوسنا معشوقتنا مدينة الرس. ولم أذكر رحلات البر والسفر والسكري والبرحي ولم أتحدث عن حبه الذي لا أتفق معه فيه نادي الهلال، ولم أتحدث عن أحب العادات والأصدقاء إليه إنهم: القراءة والكتاب والكلمة، وله شفاه الله جلد واسع في المكتبات والبحوث، وسهر الليالي مع المفردات، اقرأ هذا الشعر يا عمي فكأنه قد كُتب لك: فأنت يا أيها العملاق دارتنا أمسى بها الشعر والآداب والفِكَرُ كم عشتَ تروي بأن الشهد مطعمه شيء لذيذ ولكن دونه الإبر ظلمت نفسك بالحرمان تجرعه يطويك همّ.. وكم غنى لك الوتر كم ذا سهرت لعلم قمت تطلبه وقد جفوت التي يحلو بها السهر يا ليتني كنت أدري ما تكابده وقد صبرتَ: وكم في حبهم صبروا؟ لكنتُ أعددت يا عملاق مأدبة من المحبة لكن جئت أعتذر وأختم مقالتي واقول إن كنا قد ضعفنا أطباءً فلن نستسلم دعاءً ورجاءً، وأملاً بالله تعالى بأن يمن عليكم وعلينا جميعاً بشفائك وشفاء ابنك عبدالله، وما ذلك على الله بعزيز. @ مدينة الملك عبدالعزيز الطبية الحرس الوطني [email protected]