كتاب (روح عازف القيثارة / يحلمها كريم الشايبي) الصادر عن دار بانسكابستيريكا سلوفاكيا عام 2005مقسم لأربعة فصول تُلَخِّصها عبارةٌ تقول (الفراغ /هو معضلة /جمالية/ وفنية)، إلا أن ترتيب وتقطيع تلك العبارة يضع عنوان (معضلة) كخاتمة للفصول الأربعة. يحوي الفصل الأول (الفراغ) أربع قصص بعنوان (كتاب الحكمة، ركن الاعتراف، الماضي الكامل، بلا ظل) بينما الفصل الثاني (جمالية) يحوي أربع قصص بعناوين (العطش السماوي، تفاح لعدن، مجموعة أوهام، نظرة صادقة في المرآة) والفصل الثالث (فنية) يحوي (روح عازف القيثارة، الصنم المتغير، النحات الصغير الذي تتآكله التقوى، بيجماليون) بينما الفصل الرابع (معضلة) يحوي وفقط (محاكمة). عن هذه المجموعة القصصية تركت له الاسترسال: @ ما الذي تريد أن تقوله من كل هذه القصص، ما الكلمة التي تجمعها؟ - نحن حضارة نص، وللأسف النص مَرَّ بتحولات كبرى إلى درجة أن وصلنا لمرحلة أن صار النص من صنعنا نحن. وبالتالي فإن دراسة تحولات النص هي في حقيقة الأمر دراسة لتحولات حضارةٍ كاملة، وثقافةٍ كاملة، وفي هذه الأثناء سقط النص الأصلي، إما بكوننا قد تناسيناه، أو ما عادت لنا معه علاقة. وأصبح عملنا قراءة المقروء، فمثلا ،لو أن كاتباً قرأ نصاً وقام بتحقيقه، كل ما نقوم به نحن هو قراءة ذلك التحقيق ولا نعود للنص الأصلي الذي انطلق منه المحقق. ويتم ذلك بصورة عامة وموسعة، برأيي أننا وفي وضعنا الإنساني الحالي لابد لنا أما أن نعثر على الابداع النصي (نص أصلي) ونقرأه مباشرة دون المرور بتحقيقاتٍ وقراءاتٍ أخرى وسيطة. ما أردتُ تحقيقه من كتابة هذه القصص هو زعزعة ثلاث مُسَلَّمَات (الأخلاقية، والفنية والقديمة) وقمتُ بعملي بالتشكيك في مدى قدرتنا على المحافظة على تلك المرجعيات. لذلك فإن أغلب قصصي تدور حول نص (إما فُقِدَ أو طُمِسَ أو وَقَعَ التلاعب به) بلغةٍ أخرى (لا وجود لمرجعية). هذه الخطوة الأولى التي قمتُ بها وهي التشكيك في المرجعية، تلا ذلك خطوة إعادة البناء. القصص الموجودة تُقَدِّم أبطالاً يجدون أنفسهم أمام (نصوصٍ مفقودة)، فيجتهدون في محاولات لإعادة صياغتها، وهم في الحقيقة يؤسسونها من جديد، يؤسسون نصهم الخاص، على الرغم من اعتقادهم بأنهم لا زالوا على اتصال بالنص الأصلي (المفقود). ربما السؤال الذي يُطرح الآن هو: ما الجدوى من كل ذلك؟ وأقول إن: أي ثقافةٍ لا تضع أقدامها في الحاضر وذلك بتأسيس نصوص جديدة (و بالتالي مرجعيات جديدة) متوافقة مع العصر فإنها تحكم على نفسها بالإعدام. لست بالكاتب المتفائل، ولكن، محاولة تأسيس نص جديد فني وثقافي وتراثي ربما ستُساعدنا على تجاوز الركود الحضاري الذي نمر به. في القصة الأخيرة وهذه محاولة من المحاولات (وإن كنتُ اعتقد أن لابد من البناء الجديد) والخلاص من الحتمية التي تفرضها البنية الفكرية المشرقية والتي تعتقد أن وجود شيء من الماضي سيُعطي لذلك الضريح مصداقيته. وربما أحسن فرصة لإحياء ماضينا العريق هي التخلص من الرفات.. أنا حاولت أن أؤصل القطيعة بين الرفات والضريح. في قصصي لا رفات، ومن لا يترك رفاتاً لا يموت، فالشخصيات ليس لها أسماء، فلا نجد أيِّاً من أبطالي يحضر باسم، وإن أيا من نصوصي لا تقع تسميته، أو تحديد أرضه بدولةٍ ضمن منظومة دولٍ... لأن التسميات هي كلها ربط للماضي. وحتى في الاستثناء الذي منحتُ فيه شخصياتي تسميات اخترتُ أسماء مثل: (سديم وعديم) وهي أسماء تعني العدم... القطيعة مع الماضي هي حلم بالنسبة لي. @ تريد قطيعة مع الماضي بينما نصوصك تحتوي على ملوك وممالك منقرضة، لا نجدها إلا في الماضي الأسطوري، لكتابتك نكهة من الماضي. كيف ترى ذلك؟ - تلك القوالب السردية هي جزء من تكويننا الفكري، وأنا لا أتحدث عن قطيعة مع النماذج، فحتى لو أراد الإنسان قطيعةً مع القصيدة سيكتب قصيدة دون استعمال البحور التقليدية، لكنها في نهاية الأمر قصيدة، ولم يخرج بها عن إطار القصيدة، لكن غَيِّرَ في صورها وتراكيبها.. وتبقى نموذجاً قديماً. الأقصوصة نفسها هي من النماذج التقليدية التي ترجع للحكايا الشعبية... وأنا لم أتحرر من استعمال هذا النموذج الشرقي.. @ كيف تُوَفِّق بين نفي المرجع واللجوء للحكاية الشعبية؟ - ما يهمني في الحكاية الشعبية أنها لا تهتم بأسماء شخوصها، ثمة أمير أو راعٍ ومملكة... لا نجد أسماء ممالك وأبطالٍ. أنا اهتمامي بأساليب الحكواتية الشعبيين. لدينا في تونس حكواتي معروف (عبد العزيز العروي) كل حكاياته كانت تدور حول أمير أو راع أو سلطان.. نادراً ما تجد أسماء أماكن أو أبطال في حكاياته. اسم الشخص أصلاً لا يهم الحكواتي انطلاقاً من الفكر التقليدي العربي، فنحن وِفءقَاً لهذا التقليد لسنا إلا جزءاً من عائلةٍ أو فخذٍ أو بطن من قبيلة، وجودنا نادراً ما يكون لشخصنا بعينه وإنما للمجموعة، في الثقافة التقليدية أنت جزء من عائلة، أنتَ إما ابناً لفلان أو أباً لفلان... ويُخءتَم ذلك باسم القبيلة، وجودك كشخصٍ (فردٍ) هو ثانوي جداً حتى في تسميتك.... تأثرت بحكايات عبد العزيز العرويِ كثيراً، كنتُ أسمعها منذ الطفولة بتونس، حكايات تُعَبِّر عن ضمير شعبي يتناول المواضيع التقليدية متمحوراً حول انتصار الخير على الشر. طريقة التقديم هي التي أثرَّتء عليَّ لانتفاء أسماء الأشخاص والأماكن فيها، إذ إن وقوعها في تونس أو مصر أو العراق أو كون البطل يحمل اسم أحمد أو علي أو حسن ما كان ليُمَثِّل أي تغييرٍ في نَسق القصة، هذا التحرر من قيد المكان والتسمية هو ما صاغ وعيي الفني في تلك المرحلة المبكرة. @ مامدى الحرية التي منحها لك خلعك للأسماء والأماكن؟ ما الخصوصية التي منحها لنصك؟ - نمط القصة الغربية ترك تأثيره، وربما يكون ساهم في تقليص الإنتاج الأدبي العربي. المقاربة الغربية للبطل وللشخصيات تختلف جذرياً عن وجود أبطال وأشخاص في القصة الشرقية. وهذا ربما يُعطي حرية أكثر للقصاص الشرقي للتصرف، مقاربتنا الشرقية تعطي الحرية للقصاص للتصرف في القصة لأنه غير مُقَيِّد لا بأسماء تحد هوية البطل ولا بالأماكن التي تُحَدِّد حيز تحرك القصاص. لا زلت أذكر أن نسبة كبيرة من قصص العروي تدور حول أمير هرب من سلطنة أبوه.. وسافر، وكان التعبير عن السفر المُطءلَق ذاك عادةً ما يأتي بعبارة (وقَطَعَ بُروراً وبحوراً) دون تفصيل لأين ذَهَبَ وأين جاء وأيَّ حدودٍ عَبَرَ.. المهم في نهاية الأمر أن (نجده في مكانٍ آخر) غير مكان الانطلاق، ولكن ومنذ بداية القصة لنهاياتها لا نعرف من أين انطلق ولا أين ذهب وحتى عندما يعود إلى مملكته فإننا لا نعرف بالضبط أين هي مملكته هذه... وهذا هو نفس النسق الذي تأخذه قصصي، هذا هو المدى الذي تنطلق فيه مخيلتي، فأبطالي يجدون أنفسهم أمام مأزق التصرف في مرجعية لم يبقوا على اتصالٍ بها... وهم مضطرون في غالب الأحيان لإعادة صياغة مرجعيتهم ولايهم هنا ماهية أسمائهم ولا ماهية مدنهم.. أنا عربي فحديثي يُفتَرَض أن يتوجَّه عموماً إلى جمهور عربي، ولكن في حقيقة الأمر المرجعيات التقليدية ليست مأزقاً فقط بالنسبة للعرب، المرجعيات التقليدية تُمَثِّل مأزقاً حتى في الغرب.. إن ردود فعل الأميركيين على التصويت لامرأةٍ يُعَبِّر بكلِّ وجاهةٍ عن مرجعيةٍ تقليدية لا زالت تسيطر حتى على فكر مجتمع يُفترض أن يكون حديثاً كالمجتمع الأميركي. ولو نظرنا إلى أغلبية الدول الأوروبية نجد في أغلب الأحيان أحزاباً تقليدية مُحَافَظة في تشكيلة حكوماتها. فالمقاربة التقليدية أو المحافظة مع كل ما تستقدمه من مرجعيات لا زالت حاضرة حتى في الفكر الغربي. لذلك فإن عدم إعطاء أسماء وأماكن يترك المجال مفتوحاً لاستيعاب القصة حتى في أُطر غير مشرقية. @ تتكلم عن بناء نص حديث لمنظومتنا الفكرية الشرقية بينما كتاباتك باللغة الإنجليزية. ثم، وبصرف النظر عن تصاعد جماهيرية أوباما الحالية فكيف ترى لتقدم هيلاري كلينتون في بداية الانتخابات المبدئية (حتى السابع من فبراير)؟ - بالنسبة للكتابة بالإنجليزية فلدي دافعان، الأول: هو أن أسلوب القصة هذا الذي أتبعه هو أقرب للواقعية السحرية. وهو للأسف وإلى حد الآن نمط معروف أكثر في الغرب منه في الشرق، فربما كانت عندي نية التوجه إلى غالبية جمهور الواقعية السحرية، بلا اعتبار للجغرافية. والثاني: هو أن كل لغةٍ تتحرَّك في حيِّز تاريخها الخاص، وبالتالي فإن استعمال لغةٍ معينة يعني التحرُّك في مجالِ تاريخٍ معين. ربما اعتقدتُ أن الكتابة بلغةٍ أجنبية تساعدني على التخلُّص من زخمٍ تاريخي أجهله صراحة وخوفي هو أن تنطق حروفي بكلمات لن ارتاح لمعناها. في الحقيقة لو كانت لغتي الأم هي الإنجليزية لربما كتبتُ قصصي بالإسبانية. أما بالنسبة للنتائج التي حَقَّقَتءها كلينتون، وحتى وإن فازت بكرسي الرئاسة، فهذا لا يعني أن الاعتراضات التي وقع التعبير عنها حول ترشح امرأة ستُنسى. بل بالعكس فإن الجمهوريين وهم القطاع المحافظ من الشعب الأميركي قد عَبَّروا عن اعتراضهم على تَرَشُّح امرأة ووصفوها أحياناً بأنها الناطق الرسمي باسم (المسيح الدجال). وبطبيعة الحال فإن استعمال هذه الصورة هي تعبير عن تَصرُّف ديني، تقليدي، للتعامل مع المرأة. نفس المنطق الذي استُعمل في تصوير صدام حسين على أساس أنه المسيح الدجال، فنحن هنا أمام حقيقة أنه حتى وإن كان الشعب الأميركي يعترض حالياً على الحرب على العراق فهذا لا يعني أنه في البدايات لم يقع استعمال الصور الدينية للتعامل مع الحدث وتبريره، وتَبَنَّت ذلك التبرير غالبية الشعب الأميركي (للاستعداد المتأصل للاعتماد على المرجعيات التقليدية).