قبل فترة كنت مع أطفالي في حديقة ألعاب ضخمة حين رفضت ركوب "لعبة" خطيرة مع ابني الصغير.. وحين يئس من إقناعي نعتي بالجبن والحذر فقلت - ما معناه - أخطأت في الأولى وصدقت في الثانية.. فأنا لا أنظر لنفسي كرجل جبان، ولكنني ببساطة لا أعشق التهور وركوب المخاطر (وهناك فرق بين الاثنين).. وكنت كثيرا ما أتعجب من ميل البعض للمخاطرة والتهور وأتساءل إن كان لتصرفاتهم أصل وراثي أو بيولوجي أصيل.. وكانت الشواهد تتراكم منذ عقد التسعينيات على وجود أصل عضوي وكيميائي وراء اعمال العنف والمخاطرة بالنفس. ففي اكثر من دراسة ثبت وجود خلل في كيميائية المخ يتسبب في رفع نسبة التهور والاستعداد لمواجهة الهلاك لدى البعض.. فمن يقفز من الطائرة أو يقتحم النار أو يمشي على الحبال يستمتع بحقيقة انه (على كف عفريت) وانه قد يواجه الهلاك في أي لحظة.. أما من يخالف القانون ويهرب المخدرات ويقامر بممتلكاته فيستلذ بوضع "أللا أمن وأللا سلم" ويعجبه شعور البقاء على الحافة !! وقبل أيام قرأت بالصدفة عن باحث كندي (من أصل صيني يدعى يو) اكتشف خميرة في الدم مسؤولة عن تحديد مستوى المجازفة التي يملكها الفرد.. فكلما زاد معدلها في الدم زادت نسبة التحفظ والحذر لدى الإنسان - وفي المقابل - كلما قلت أصبح أكثر طيشا وتهورا واستعدادا للمخاطرة... وللتوسع في هذا الموضوع زار السجن المركزي في مدينة ساسكواتشن وأخذ عينات من دماء أعتى المجرمين والقتلة فلاحظ أنها خالية تقريبا من هذه الخميرة (التي دعاها Moa ويفترض علاقتها أيضا بمستوى الجرأة والاستعداد للمقامرة).. وبعد الدكتور يو تولت جامعة ساسكواتشن البحث في هذا الموضوع واكتشفت أن مستوى هذه المادة يرتفع وينخفض وفقا للسن والجنس وظروف الحياة.. فقد اتضح مثلا أنها ترتفع في الدم كلما تقدمنا بالسن (وهو ما يجعل الشباب أكثر تهورا من الشيوخ) كما ترتفع لدى النساء أكثر من الرجال (وهذا ما يجعل النساء أكثر حذرا وميلا للمجازفة) وترتفع فجأة حين يصبح الشاب أباً (وبالتالي يصبح أقل تهورا مقارنة بأيام العزوبية) في حين قد يتسبب ارتفاعها غير الطبيعي بفوبيا الخوف من أشياء صغيرة ومعتادة (مثل قطع الشارع وصعود المرتفعات وركوب الطائرة) !! .. ووجود هذه المادة في دمائنا دليل على أن الميل للمخاطرة هو الأصل في الانسان (مالم تكبح جماحهم خميرة Moa). وهذه الحقيقة تؤكدها أنه حتى الحذرين من الناس يمارسون قدرا معينا من المجازفة والمقامرة بالذات ؛ فنحن نركب الطائرة رغم مخاطر سقوطها، ونسلم اجسادنا للجراحين رغم احتمال وفاتها، ونضع مدخراتنا في البورصة رغم احتمال خسارتها.. وحتى في أشد لحظات السكون والأمان تجذبنا المسلسلات والأفلام التي ترتفع فيها نسبة المخاطرة والتهور ووجود البطل على الحافة !! ... طالما ثبت وجود أصل كيميائي لتصرفاتنا الشخصية أتوقع مستقبلا ظهور كبسولات (وربما حقن) ترفع من مستوى الشجاعة والجرأة لدى البعض، في حين تخفض مستوى الطيش والتهور لدى البعض الآخر !!