سواء فاز السيناتور الديمقراطي (باراك أوباما) بترشيح المندوبين الديمقراطيين الأمريكيين له لنيل بطاقة الحزب للمنافسة على كرسي البيت الأبيض أم لا، وسواء انتخبه الشعب الأمريكي، فيما بعد، لرئاسة البلاد أم لا. فلن يغير ذلك شيئا من عظمة المسيرة السلمية، للسود والملونين في الولاياتالمتحدةالأمريكية، للمطالبة بحقوقهم المدنية، والتي وصلوا من خلال رحلتها البطيئة، ولكن الظافرة، إلى مشارف البيت الأبيض الذي كان، منذ أن استوطن الآباء المؤسسون أرض الحلم، قبل ما يزيد على مائتي سنة، حكراً على الرجل الأبيض. لا يمكن لمن عايش بداية مسيرة الجهاد السلمي للسود الأمريكيين للتخلص من وضعهم اللا إنساني، أن يتصور مجيء يوم يصبح فيه الأسود، لا حاصلا على حقوقه المدنية، بما فيها حق الانتخاب، فحسب، بل ومرشحا رئيسيا لحكم أقوى دولة في العالم.فقد بدأت مسيرة التحرر الأسود هناك من قبضة الرجل الأبيض، قبل ما يزيد على مائة وأربعين سنة فقط، بإلغاء نظام الرق من قبل الرئيس ابراهام لنكولن ( 1809- 1865). والذي تسبب في إشعال حرب أهلية أمريكية امتدت لخمس سنوات، ( 1861- 1865) . في تلك الأثناء، ربما لم يدر بخلد السيدة (هيريت ستاو) مؤلفة رواية (كوخ العم توم) أن يتمكن السود، من يوم من الأيام، من إرغام المحكمة العليا على إصدار قرار يمنع التمييز العنصري في المرافق العامة بعد مرور أقل من سبعين عاماً على صدور روايتها الآنفة الذكر.أما أن يترشح ابن مهاجر كيني أسود لرئاسة الولاياتالمتحدة، فذلك ما كان، بالنسبة لها، ضرباً من الخيال الجامح. رغم صدور قانون إلغاء الرق، الذي كان السود والملونون قبل إلغائه يباعون ويشترون في سوق الرقيق، كما تباع وتشترى الحيوانات، إلا أن مظاهر التمييز العنصري استمرت، في العرف الأمريكي، سياسيا واجتماعيا، إلى درجة أنه لم يكن يُسمح للسود بمجاورة أو مساكنة أو مؤاكلة البيض بأي شكل من الأشكال، لكأنهم كتل متحركة من مرض الجذام!!!. نعم لقد كان خلاص السود من الرق خطوة عظيمة لا تقدر بثمن، إلا أن طريق الجهاد السلمي، في سبيل استعادة كافة الحقوق المسلوبة، طويل ولا بد وأن يمر بعدة منعطفات يأخذ كلٌ منها بذات الطريق إلى محطة أخرى أكثر تقدما من سابقتها. ولكن لا بد من الصبر والأناة وضبط النفس حتى تنضج الثمرة على نار هادئة. لذا، فقد انتظر السود أكثر من سبعين سنة بعد تحررهم من أسر الرق، لكي يخطوا الخطوة الثانية نحو بلوغ الحلم، ففي الأول من ديسمبر من عام 1955رفضت السيدة (روزا باركس) إخلاء مقعدها، كما كان مطلوباً من السود حينها، في حافلة النقل العام لرجل أبيض كان يقف بجوارها بعد أن طلب منها ذلك، فكانت تلك الحادثة بداية لخطوة تحرك السود نحو المطالبة بحق المساواة مع البيض في الحقوق المدنية. إلا أن الشرطة اقتادت السيدة (باركس) إلى السجن وقدمتها فيما بعد إلى محاكمة تجمع أثناءها آلاف من السود والملونين مطالبين المحكمة بتبرئة تلك السيدة من تهمة مخالفة القانون، وأكثر من ذلك، طالبوا المحكمة بمساواة السود والملونين بزملائهم من المواطنين البيض، ومع شدة ما كانوا يعانونه حينها من تفرقة عنصرية، إلا أن احتجاجاتهم لم تشهد من يطالب بنسف مبنى المحكمة، كما لم تشهد من يتسلل خفية من بين الجموع وهو مفخخ الجسد ليلقي بالمحتجين والمحتج عليهم صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية!!!. كما يحصل في بلاد بني يعرب الآن. بل كان احتجاجهم سلميا على طريقة الأنبياء والقديسين. فيما بعد أفرجت المحكمة عن السيدة (باركس) بكفالة مالية دفعها، ويا للمفارقة، أحد المحامين البيض الناشطين في مجال مكافحة التمييز العنصري، وهي دلالة تؤكد العمق الذي وصلت إليه الاحتجاجات السلمية للسود من تأثير على وجدان المجتمع الأمريكي في ذلك الوقت. لم تكد المحكمة تفرج عن السيدة (باركس)، حتى تحولت قضيتها إلى قضية عامة التقط خيطها، ببراعة، ناشط أسود آخر، سيكون له دور بارع في مجال نقل المعركة السلمية إلى مستوى أعمق على طريق الحرية الشاق. هذا الناشط اسمه (مارتن لوثر كينج)، والذي كان، إلى جانب حماسه لقضية الملونين، ذا شخصية جذابة وبلاغة خطابية آسرة. وكان مؤمنا إيمانا كاملا بضرورة ضبط النفس ونبذ العنف، حيث كان يحض أتباعه ومؤيديه على تَمثُّل أساليب ومبادئ المهاتما (غاندي) في استراتيجيته السلمية التي حررت الهند من سيطرة التاج البريطاني. ولذلك، بل وبسبب من ذلك، فقد اصطدم مع رفيق دربه في الصراع (مالكوم إكس) الذي كان ينادي باستخدام العنف والقوة في مواجهة عنف الشرطة الأمريكية ضد دعاة الحقوق المدنية، ولم يكن غريبا أن ينتهي (أي مالكوم إكس) بائساً حزيناً مرذولاً مثلما انتهى وينتهي نظراؤه العربان في العراق وفلسطين وغيرهما من المجتمعات التي لم تتذوق طعم المقاومة السلمية. كانت أولى أدوات "لوثر" في المعركة السلمية، دعوته لأتباعه بالامتناع عن ركوب الحافلات، والذي كان مقررا أن يكون ليوم يوم واحد، إلا أنه استمر - نتيجة لتفاعل المجتمع معه بمن فيهم كثير من البيض - ثلاثمائة وواحداً وثمانين يوما كانت كلها أياما نحسات على شركات النقل العام التي أفلست جراء ذلك الحصار اللوثري الرهيب. أدرك بعدها لوثر أنه ومن معه مؤهلون للا نتقال إلى خطوة أنكى وأنجع، فقد تقدم إلى المحكمة الفيدرالية باسم (اتحاد الإصلاح بمدينة مونتجمري)، وهي المكان الذي شهد واقعة امتناع السيدة روزا باركس عن إخلاء مقعدها للرجل الأبيض، مطالبا إياها بإصدار قانون يمنع التمييز العنصري في حافلات النقل العام، ولم تخيب المحكمة ظنه فقضت بمخالفة التمييز العنصري، في الحافلات، للدستور الأمريكي. وزاد على ذلك بأن استصدر قرارا من المحكمة العليا يضع هذا القرار موضع التنفيذ، وفعلا أصبحت المساواة بين البيض والسود في حافلات النقل العام أمرا يكفله القانون. (يتبع)