الانتحار، ظاهرة من الظواهر الاجتماعية التي تُشكل عاملاً سلبياً تجاه نتائج التنمية الاجتماعية والاقتصادية في روسيا، مازالت روسيا تبحث عن آلية لتجنب تفاقم الظاهرة وحتى لا تنعكس تداعياتها على خطط تنمية المجتمع، خاصة في ظل المتغيرات المتلاحقة والتي تعيشها روسيا مؤخراً وفي ظل اتجاه الدولة لرفع مستوى المعيشة وفق المقاييس الأوربية. وتقول مديرة مركز " سربسكي" لشؤون التحليل النفسي الاجتماعي والقضائي في روسيا "تاتيانا ديميتريفا" ان روسيا باتت تحتل المرتبة الثانية في العالم من حيث الانتحار بعد ليتوانيا، مضيفةً أنه ووفق معدلات السنوات الاثنتي عشرة الأخيرة فإن 60ألف شخص يقدمون على الانتحار في روسيا، عشرون بالمئة منهم يعانون أمراضاً نفسية، إلى جانب أن حوادث الطرق تودي بحياة ما يقرب من 35ألف شخص. وتُشير الدراسات إلى أن الأشخاص الأكثر عرضة للانتحار هم الذين تتراوح أعمارهم بين 45و 55عاما والمراهقون، وأن التغييرات الاجتماعية التي رافقت تفكك الاتحاد السوفييتي السابق والتقصير في تسديد الديون المستحقة والضغوط الناجمة عن النزاعات العائلية وحالات الطلاق والوحدة والاستعداد النفسي والجسدي هم أبرز أسباب إقدام الروس على الانتحار. ووفقا للإحصائيات فإن نسبة 60بالمئة من المنتحرين الروس يتعاطون المشروبات الكحولية قبل الإقدام على هذه الخطوة. وبالمقارنة بأوربا الغربية والولايات المتحدة فالنسبة اقل مرتين. وتظل روسيا قابعة في المركز الثاني عالمياً، بالنظر لعدد مواطنيها المنتحرين، وبارزة كأول دولة على المستوى العالمي من حيث إقدام الأطفال والمراهقون على الانتحار، ويبقى رقم 20ألفاً من بين 100ألف هو رقم لا يدعو للتفاؤل. ففي الأعوام الماضية انتحر ما يقرب من ثلاثة آلاف تتراوح أعمارهم بين 10إلى 19عاما. وازداد هذا الرقم خلال 30عاما 13مرة علما بأن 70بالمئة من هذه الحالات تجرى بين فتيان من الأسر الغنية، وتُشير إحصائيات وزارة التعليم أن ما يربو على 14ألفاً من الأطفال انتحروا خلال الفترة من 1995- 2000وحدها، وتزداد حالات الانتحار بين المراهقين بنسبة 8- 10بالمئة خلال الفترة الأخيرة. ويقول الخبراء إن الكآبة المقترنة بشعور الإحباط واليأس، والمواقف المقيدة والخالية من المرونة من جانب الأسرة تجاه مشاكل المراهق، بالإضافة للوضع العائلي المعقد وما يعتريه من نزاعات قد تدفع لتناول المشروبات الكحولية والمخدرات، هم أبرز العوامل التي تدفع المراهق الروسي للانتحار. فقد ألقى شقيقان توأمان 12عاما بنفسيهما من الطابق العاشر مما أدى إلى مصرع أحدهما ونقل الآخر إلى المستشفى وهو في حالة خطيرة، ومن خلال أقواله ان ما حدث هو جدال بينهما حول من هو أكثر شجاعة من الآخر وأن القفز من النافذة كان بمثابة الاختبار لمعرفة النتيجة، كما أن قرار الفتى "إيجور" ( 16عاما) بأن يلقي نفسه من النافذة إنما جاء نتيجة الفشل في علاقة عاطفية وأن احداً من أفراد أسرته لم يكن مستعداً لمناقشة الأمر معه. ويرى خبراء معهد موسكو للبحث العلمي أن الأطفال لم تتبلور بعد لديهم الحالة العقلية، فهم على درجة عالية من الإحساس ويميلون لتكديس الانفعالات السلبية. وبالنسبة للمراهق فيرى "يورى سيناجين" مدير مؤلف كتاب "حالات الانتحار بين الأطفال" بأن الانتحار الذهني هو ظاهرة ملحوظة لدى كل طفل يشعر بأنه تعرض لإهانة نتيجة تصرفات من داخل أسرته، كما أن العناية المفرطة من جانب الوالدين تجعل الطفل عرضة للضعف، فالطفل المحبوب مسموح له بكل شيء داخل العائلة، وعندما يخرج للعالم الخارجي ويواجه مقاومة فانه سرعان ما يصاب بخيبة أمل. ويرى البروفسور "بوريس بولوجى" أن حالات الانتحار في روسيا تحدث بين الأفراد الذين تتراوح أعمارهم بين 40و 49عاما، وأن متوسط أعمار المنتحرين الروس هو 43بالنسبة للرجال و 52بالنسبة للنساء، مضيفاً أن حالات الانتحار بين الرجال اكبر بست مرات من النساء، على الرغم من أن محاولات النساء للانتحار قد حققت نسبة أكبر من الرجال. ويعتقد في أن الانترنت يلعب دورا ملحوظاً في تزايد حالات الانتحار، حيث تنتشر المواقع التي تناقش قضايا الانتحار وفي الأغلب ما ينتقل النقاش إلى ممارسة فعلية للانتحار. وأجملت منظمة الصحة العالمية أسباب حدوث حالات الانتحار بين الرجال في أن الوسائل التي يستخدمها الرجال أكثر فاعلية بالمقارنة مع تلم التي تستخدمها النساء، هذا بالإضافة إلى تعاطى المشروبات الكحولية وعدم ميل الرجال لمناقشة مشاكلهم مما يؤدي لشعورهم بالعزلة الاجتماعية التي يكون لها الأثر المدمر لحياتهم. ولعله جديراً بالذكر أن حالات الانتحار هي ظاهرة عرفتها البشرية منذ زمن بعيد، حيث عرفت اليونان القديمة الظاهرة ولم تتعرض بوجه عام للإدانة، لم يبد منه موقفا سلبيا سوى الفيلسوف أفلاطون، وقد عرف الرومان الظاهرة بشكل واسع النطاق.