ذات مرة حاولت الخروج من جلدك، التسكع هناك، قريباً منهم، حاولت، أن تهتدي إلى أي طريقة تقودك لتضييق المسافات، للدخول خلف قشرة اعتقدت أنها هي الوحيدة التي قد تمنحك ما تفتقده، وما ظللت تبحث عنه زمناً طويلاً. وأنت تمشي في دهاليز موحشة، وممرات كئيبة، وأسطح خطرة الزوايا، قد تشعرك بالسقوط النفسي، قبل أن يحين موعد السقوط الفعلي تشم من بعيد رائحة الأمكنة التي لا تحملك، ولا تحملها. الأزمنة، التي هي ليست زمنك، والوجوه التي تسود الكل، لكنها من غير الممكن أن تجبرك على التوقف أمامها. والأرصفة التي ستجد تأشيرة العبور من خلالها إن أردت، رغم تحريمها على الآخرين لو حاولوا. ذلك الكم الهائل من التحريض الذي حاصرك لم يستطع أن يصل بك إلى خارج دائرتك التي ألفتها. لم يستطع أن يفتح أبواب النور التي غابت وأنت في الطريق ليملأ بها رئتيك. لم يستطع أن يمنعك من أن تختنق رغماً عنك وأنت تحاول الهروب. ذلك التحريض الهائل للعبور إلى الضفة الأخرى لم يكن قادراً على ضخ أمواج المنع بمدها القوي داخل أوردتك. لم يكن قادراً على سرد مختارات البقاء والركون إلى المكان. المكان.. وما المكان، الخالي من الحياة، والأرواح. ذلك المكان الذي ظللت مقتنعاً، كما ظللت محاصراً بهتافات الآخرين، للانطلاق نحوه، والسير في جنباته. وإشهار أوراقك الثبوتية للانضمام إلى عضويته. ليست كل الأمكنة كما تتخيلها. وليست كل الوجوه من الداخل كما نراها من الخارج. وليست كل الملامح تحمل براءاتها، وصدقيتها كما اعتادت فطرتنا على مصافحتها. وليست أزمنتهم، أزمنة المعجزات التي ينبغي علينا أن نحتمي بها، ونذوب داخلها. وليست فصول حياتهم التي ظللنا نركض حولها هي كل الفصول التي غابت عنا، وداهمنا الخوف من أن لا نحتوي يوماً واحداً منها. تجد نفسك فجأة محاصراً، في داخل زمن لا يعنيك، ومكان لا تختص به. ووجوه يداهمك القلق منذ النظرة الأولى إليها. ينسكب حولك نهر مكتظ بالدعوات للهروب، والمغادرة، والاحتماء بمائه، مهما كانت درجة حرارتها. لا تفكر إن أخذك النهر ولم يعدك، إن اغرقك، أو أصبحت مفقوداً داخله. فقط عليك أن تستجيب لآخر فرصة لاستلام أوراق نفسك وانتشال ما تبقى من ذاكرتك التي قد تذوب دون أن تعلم.