قلت في الجزء الأول من هذا الموضوع أن "شربل روحانا بالذات أتى بالجاز بطريقة كان وفيا فيها لقلبه وعقله معا". وبالطبع الجاز ليس كل شيء أطلقه شربل للإبداع والتسامي فالحساسية الموسيقية ومجموع الحالات التي تدلف من خلال موسيقاه جامعة العلوالهبوط في كل واحد وحركات أنيقة تستوعب الأكثر حتما من مجرد لون واحد. شربل يعظم من شأن العود.. يستخدم آلاته الأخرى (غير العود) أحيانا كنوع من الخلفية والاتزان لعوده. لتصير مساحة عمله فضاء من الآلات يلبي نداء النغمة الشرقية النابضة في عوده المرن والمتفاعل. شربل مبدع بما يكفي لتكون ألحانه - تعبيرات مجزأة مختلفة يربطها بكل واحد شاسع لكنه متماسك إذ يستعين شربل على تعدده بحركة مفاصله اللحنية المرنة بدرجة تكفي لتكييف السمع فلا يشذ الصوت فيه أو تشعر الروح المرهفة بأي انتقال حاد بين جملة لحنية وأخرى.. يقول أحمد الواصل: (السمع مغرور بين الحواس كما هو أحد أوصافها المناسبة للأنانية الفردانية والأرشفة عبر امتلاء الذاكرة) بأخذ هذه الكلمات مأخذ الوعي سنجد أن التلقي المميز لبعض الأصوات هو فعل من أفعال الغرور والامتلاء. أحمد من خلال هذه الجملة المركزة يفصل المستمعين العرب ليلمح إلى أن ثمة أعمال قد لا يتذوقها سوى النخبة. أنا أعتقد جدا بالمنطقة الجمالية الوسطية التي يستطيع بعض المبدعين القبض عليها فتكون أعمالهم مكدسة الغرور السمعي بذاتها.. لا بذات متلقيها، فما أن تفتح للموجات الصوتية حضورها حتى تمثل للأذن(كل أذن) ترفا حسياً وروحياً قد يقع في النفوس بتأثير متفاوت تحكمه خلفية ثقافية شخصية لكنه أبدا لا يتراجع عن سطوة حضوره وإدهاشه. فإن لم يضمن الانسجام.. سيضمن الشعور برقيه لا محالة. أعتقد أن شربل روحانا ضمن أولئك القلة الذين يتعددون بحجم الأمزجة لكنهم لا يتخلون أبدا عن رقيهم وكثافتهم. قلت أن شربل يسخر الآلات لخدمة العود.. كما قلت أيضا أن هذا الموسيقي بليغ حد السحر. في قطعته (عم اشتقلك) يحشد الآلات لنوايا العود الشرقي.. ويمارس بلاغته. حين يتحدث عن الشوق يبذر الوحشة في طيات موسيقاه، يأخذ الهروب بذنب الخذل. ويأسر كل هذا في لحظة ذكرى لاحقه.. هادئة مستسلمة وقد تأتي للحسرة، مبتسمة أيضا!. في قطعته الحلم تلك يقول شربل مجموع المشاعر كلها التي تجتمع بتفاوتها مكونة حالة واحدة نسميها نحن مجازا (شوق). في "فالس الطفولة" ثمة فوضى تترب في ميلان لعبة.. يلحق به التعب في براءة وهدوء تعود بعدها الموسيقى للتحليق شيئا فشيئا..مثل أطفال التقطوا أنفاسهم. الموسيقى ناعمة ومن الطفولة والانطلاق بمكان. ضخ شعوري في طاقة حركة غير عادية، حركة تأخذ من المتعة والتحرر مايكفي ليأتي بعد ذلك ما يحمل المستمع على كف تحليق.. في دورانها تتضاءل الصور وتتحرك حتى لا يبين ولا يعود مهما أن يبين شيء من العالم المحيط..تماما مثل حبيبان يرقصان، تماما مثل رقصة تعيش الحب حركة وانقطاع. أكثر مايحفز في تلك الموسيقى هو في ايحاءات اللهث والتعب تلك التي أعقبت حركة موسيقاه الضاجة. تحدث الصحافة عن كتابته وأدائه لأغان ساخرة ولاذعة للمجتمع اللبناني توضح من خلال حالته مايحدث مع الموسيقي الجميل حين يحول حنجرته لآلة من ضمن آلاته.. فيغني!. أما أكثر أعماله التي أثارت الناس والأوساط الثقافية خصوصا عمله المشترك مع مارسيل خليفة (جدل) الذي امتزج فيه عوده بعود مارسيل مكونان بذلك تحفة تلقائية راقية وجريئة تعتمد بالدرجة الأولى على لحظة الخلق المباشرة.