لا تستهن بها إنها الثقافة التي تتسرب من بين يدي الجمادات وكأنها الماء، إنها الثقافة والصادرات الثقافية التي أزعج الولاياتالمتحدة الأميركية قرار الصين الحد من استيرادها؛ من سينما وأفلام ومسرح ومنتج أدبي أو معرفي. الموضوع ليس سياسيا ولا اقتصاديا ولا..، فتعريف السياسية لا يتعدى عدة تعريفات، وكذلك الاقتصاد، ولكن الثقافة لها عشرات التعريفات، وهذا دليل على قوة حضورها وتنوع تأثيرها، إنها الثقافة القوة الحاسمة الحالية والقادمة، وفي هذا المقال نستشهد بالثقافة الأميركية الأكثر وضوحا في هذه المرحلة، ولكي نفهم مسألة الثقافة الأميركية وتصديرها لثقافة الجنز الأميركي، والنظرية الفوردية الأميركية، والحلم الأميركي، والسيادة؛ فلا بد من أن نتكئ على النقد الثقافي. النقد الثقافي الذي صوره البعض على أنه نقد محصور في زوايا من الحياة الأدبية والمكتوب أو المنطوق الإنساني بينما هو حالة مكتملة، وأبنية إنسانية وأدبية ووجودية وأسس فكرية، ولذلك أنا أكرر في كل مرة عن قناعة إنه أداة من أدوات علم الاجتماع الأصيلة. ولنأخذ من نظرية الأنساق عدسة لتشخيص الثقافة الأميركية التي تحرك القرار الأميركي، فهناك مساران رئيسان؛ مسار يتبنى فكرة الحرب الدائمة، ومسار يتبنى الأزمات الدائمة، مساران رأيناهما في الفترات القريبة الماضية بكل وضوح، مسار ثقافي يرى أن صناعة الحروب هو وسيلة بقاء النفوذ الثقافي، فلا بد أن يكون هناك مناطق من العالم ملتهبة لا يهدأ فيها صوت الرصاص، وفي حالة المسار الثاني لا حروب ولا رصاص ولكن أزمات لا تتوقف أزمات اقتصادية، صحية، تقنية، ثقافية..، ومن يقف خلفها لا يرى أنه ينطلق من فكرة عدوانية ولكنه ينطلق كما يرى نفسه من فكرة ثقافية سيادية ونفوذ يخلق الأزمات أو الحروب ليكون جهاز التحكم الثقافي بيده وتحت سيطرته، ففي الوقت الذي فشلت فيه النازية الألمانية في جعل ثقافتها العرقية الثقافة المتسيدة التي كانت تنوي تصديرها إلى العالم لتكون هي الثقافة الأم وما عداها ثقافات تابعة وخاضعة، نجحت أميركا في التقاط هذا التوجه وتطبيقه على أرض الواقع. عندما قررت الصين أن تتجه للصادرات الثقافية الأميركية الواردة إلى الصين فتضعها في دائرة الحرب الاقتصادية المتبادلة بدا أن بعضنا استغرب هذا التوجه، ولكن هذا الاستغراب جعلنا نقرأ المشهد برؤية موضوعية جعلتنا نشعر بمعنى التأثير الثقافي، ونتيقن بأهمية المفردات الثقافية. المفردات الثقافية تتمثل في الدين واللغة، والأدب، وتصاميم الأبنية، والألبسة، والأكل، والفنون، والمسرح، والسينما وطرق التفكير، والخصوصيات المرتبطة بالهوية، وهذا ما يجعلنا ندرك مدى أهمية اعتماد مفرداتنا الثقافية، والتي كان آخرها اعتماد علامة الريال السعودي، والخط الأول والخط السعودي، وقبلها لون سجاد التشريفات باللون البنفسجي، والتأكيد على ارتداء زينا الوطني. هذه هي الثقافة، وهذا هو النقد الثقافي الذي يفكك ويشخص ومن ثم يعيد تركيب المشاهد على اختلافها بما يعطينا قدرة على معرفة وتحديد مفاصل القوة الكامنة في مفردات الثقافة، ومدى تأثيرها على التوجهات الاقتصادية والتعليمية والتنموية والعلمية...، ومدى تأثيرها الحضاري المستدام، فكم من حضارات مرت على التاريخ ولم يعد لها ذكر لأنها لم ترسخ مفرداتها الثقافية وهويتها الإنسانية والحضارية الخاصة.