مقولة جميلة تقول ( أن المصائب والفتن عندما تُدبِر يعرِفها كل العالم ولكن عندما تُقبِل فإنه لا يعرِفها إلا قِلّة من العُقلاء). كما هي العادة في كل معرض كتاب لابد من إثارة قضية تدل على ان هذا المجتمع منقسم على نفسه وأن هناك فريقان احدهما متطرف الفكر وآخر ليبرالي المنهج . وكل فريق لا يقبل برؤية الطرف الاخر ويراه السبب قي نكسة الأمة وويلاتها . كل فريق يرى أن الطرف الاخر ليس من حقه أن يعيش أو أن يقاسمه الهواء والفضاء !! ولربما لولا وجود بعض الهيبة والنظام لتصافح الفريقان في معرض الكتاب بالسيوف !! على كل أُمّة تريد أن تتقدم فعليها أن تُصحح توجُهاتِها الخاطئة وتراجع طرق تفكيرها وتقوم بردم الهوة بين الواقع والمأمول , وتخرج من حياة الرتابة والجمود , وتبتعد عن تقليد الآخرين وتنجو بنفسها من الاستسلام للكوارث والأزمات , وهذا لا يتم إلا من خلال ممارسة نقدية هادفة . وفي ديننا الإسلامي فإن القران الكريم قد وضع الركائز الأولى لممارسة النقد الإصلاحي في المجتمع المسلم فنجده في آيات عديدة نزل معاتبا ومنتقدا للرسول والمؤمنين بهدف الإصلاح والتقويم . لقد اعتاد الكثير إن مفهوم النقد هو إبراز العيوب والأخطاء ولهذا أصبح النقد غير مقبول ولا يؤخذ به في معظم الأوقات . إن النقد الهادف هو الذي يقوم على تقييم الواقع وذكر المحاسن وسرد المعضلات وكيفية إيجاد الحلول على شكل أفكار جديدة أو توجيهات سديدة . إن أعظم ما يواجه امتنا الإسلامية هو التعصب للمذاهب والقبيلة والعادات والتقاليد بالإضافة إلى التقليد الاعمى لثقافات غربية دخيلة , وترتب على ذلك أن ننهج إلى إخفاء كل عيوبنا دون تقبل لنقد او مناقشة لواقع مؤلم أو رضا بالحلول الناجعة .إنّ ثقافتنا النقدية لا تستطيع العيش في المحيط التي ينهج منهج العصبية والتقليد الأعمى ويرفض الرأي الاخر , فمن شروط النقد البناّء أن يكون متحررا من الأغلال والقيود والتقليد . و ثقافة النقد لن تتطور إلا من خلال الانفتاح على الاخرين وتقبل الرأي الاخر , كذلك فإن العقلية النقدية عليها ان تتحدث عن الامل والمستقبل ولا تظل حبيسة الحاضر او التاريخ . إنّ النقد الهادف هو القلب النابض الذي يقول انّ تلك الامة هي أُمّة ميتة او حيّة . وعندما نتكلم عن ثقافة النقد فنحن لا نتحدث عن الثقافة التي تنتقد من اجل الانتقاد لتمارس نوعا من التأثير العكسي على المجتمع والحكومة فمفردات الدواعش والليبرالية وعلماء الحكام والخوارج لم تقدم شيئا بل زادت الامور تعقيدا وانقسم المجتمع الى فئات متناحرة فكريا وثقافيا .. إنّ الثقافة النقدية التي نريدها هي تلك الثقافة التي نشأت على الاحساس بالمسئولية المجتمعية وإنكار الذات والجماعة . أن ّالثقافة النقدية السليمة هي التي تتمتع برؤية غير عادية تبعث النجاح والإبداع . والثقافة النقدية الايجابية تتطلب الوضوح في الطرح والبعد عن الغموض , فالغموض يعني نقص المعرفة وقصور الادراك بواقع المجتمع , وهذا يقودنا الى الاهتمام بلغة الخطاب وانتقاء الكلمات حسب ظروف الموقف , فحتى استخدامنا لآيات القرآن رغم بلاغته وفصاحته قد لا يجعل لنا اليد العليا في بعض المواقف ولهذا يقول الامام على لأصحابه ( لا تجادلوهم بالقران فهو حمّال اوجه ) . ولعل من اهم ملامح الثقافة النقدية الناضجة البعد عن التلاعب بالعواطف واستخدام المؤثرات الدينية والقبلية والاجتماعية وفوضى نقل الثقافات الدخيلة لفرض الرؤية النقدية . وأخيرا لعل اهم ما يمنع مجتمعنا من تبني ثقافة نقدية متكاملة , هو وجود ثقافة شعبية واجتماعية رضعناها منذ الطفولة , تمارس نوعا من العقم الفكري , كذلك وجود فئة ترفض التجديد وتصر على بقاء الحال على ماهو عليه في مقابل فئة صادرت عقولها واعتمدت على نقل الثقافات الغريبة دون مراجعة لتلك الثقافات والتأكد من ملائمتها للمجتمع وربما يعود ذلك لضيق في افق رؤية كلا الفئتين او تهديدا لمصالحهم ونفوذهم ومن اجل ذلك قد يمارس البعض من كلا الطرفين نوعا من الترهيب والتخويف لكل من يحاول ان يستخدم عقله او يوسع مداركه ولهذا يُصبح كل من يحاول إضاءة شمعة في هذا الظلام أعمى لا يستطيع ان يرى حتى ضوء شمعته , كما ان كُلّ صوت يريد ان يصْرخ بأن هناك غد مشرق جميل , تجد من يُلجِمه ويُخرِسه . .