قبل أيام، أصدرت منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة (الفاو) تقريرها الشهري عن مؤشر أسعار الغذاء العالمية، والذي ارتفع إلى أعلى مستوى منذ أبريل 2023، مسجلاً أكبر زيادة خلال 19 شهراً، الأمر الذي يطرح سؤالاً عريضاً حول مستقبل هذا المؤشر الأكثر موثوقية في العالم، وبعبارة أكثر وضوحاً، إذا كانت أسعار الغذاء الآن مرتفعة للغاية، فماذا ستكون عليه الأسعار عندما يتم تطبيق رسوم جمركية صارمة، وما هو الطريق الآمن لتفادي هذا المطب الصعب الذي يحوم حول جيوب المستهلكين. تعد التداولات في قطاع المنتجات الغذائية مذهلة للغاية، حيث وصلت قيمة الإنتاج الزراعي حول العالم إلى 4.5 تريليونات دولار خلال عام 2024، محافظة على معدل نمو سنوي 3.7 %، ومن المرجح أن تصل قيمة الإنتاج الزراعي العالمي إلى 5.5 تريليونات دولار في عام 2030، أما قيمة الواردات بين الدول فتصل إلى 899.7 مليار دولار في عام 2024، محققة معدل نمو سنوي مركب قدره 3.5 %، فيما تبلغ قيمة الصادرات الزراعية حول العالم 836.1 مليار دولار، وتشير هذه الأرقام إلى ضخامة القطاع وتوسعه، كما تشير إلى أهمية تأمين إمداداته وضرورة الحفاظ على مستوى تسعير معقول بحيث تصبح منتجاته في متناول الجميع. مستقبل أسعار الأغذية نعود إلى السؤال الذي طرحناه، والذي يتعلق بمستقبل أسعار الأغذية العالمية خلال الشهور المقبلة مع تطبيق تعريفات مشددة على سلاسل التوريد، دعونا نتذكر أن الرئيس المنتخب دونالد ترمب يعتزم فرض تعريفات جمركية بنسبة 10 % على جميع الواردات الأميركية من الخارج، فضلاً عن تعريفات عنيفة بنسبة 60 % على المنتجات الصينية، و25 % أخرى على منتجات المكسيكوكندا، وإذا تم إقرار هذه الزيادات، فسوف ترتفع أسعار كل شيء، وفي مقدمتها أسعار المواد الغذائية، وغالباً ما يمرر تجار التجزئة هذه الزيادات للمستهلكين، وهذا يعني، وفقاً لبعض مركز الأبحاث في الولاياتالمتحدة، تضخم ميزانية البقالة السنوية للأسر بنحو 3 % في عام 2025. ومع ذلك، فإن توقيت وحجم أي تعريفات جمركية جديدة يتم فرضها بمجرد تولي ترمب منصبه أمر غير واضح، فلربما تستخدم الإدارة الجديدة ورقة التعريفات الجمركية كأداة للتفاوض على النفوذ في محادثات التجارة، أي أنها مجرد ورقة ضغط على المنافسين التجاريين، وإذا لم يعجب ترمب ممارسة معينة أو مبادرة سياسية مناوئة، فيمكنه استخدام ورقة الرسوم الجمركية المشددة كوسيلة لتهديد خصومه، حتى يحصّل أكبر مكاسب ممكنه لبلاده. تُعد التعريفات الجمركية شكلاً رجعياً من أشكال الضرائب، لأنها تضر الأسر ذوي الدخل المحدود، والتي تنفق حصة أكبر من ميزانياتها على الضروريات مثل البقالة، مقارنة بالأسر ذات الدخل الأعلى، وإذا أخذنا كلام ترمب على محمل الجد، فإن التكلفة الهائلة للرسوم الجمركية على الأسر ذات الدخل المنخفض باهظة للغاية، كما أن فرض تعريفات صارمة على دول أخرى سيؤدي إلى زيادة التكاليف الاقتصادية على جميع الدول المتضررة، بمن فيها الولاياتالمتحدة، لأن الصين، المتضرر الأكبر سترد بشكل انتقامي. الصادرات الزراعية لو ركزنا الحديث أكثر على تأثير الرسوم الإضافية على أسعار المنتجات الزراعية، فسنجد أن الولاياتالمتحدة هي أكبر مصدر للمنتجات الزراعية في العالم، ووفقًا لوزارة الزراعة الأميركية، حققت الصادرات الزراعية إيرادات بلغت 197 مليار دولار في عام 2023، فضلاً عن إسهام القطاع في توظيف أكثر من 1.2 مليون موظف سنويًا، ولا شك أن أي حرب تجارية تستهدف المنتجات الزراعية والغذائية سوف تخلف آثاراً سلبية كبيرة على القطاع الزراعي الأميركي، مما يعرض الإيرادات والعمالة للخطر. تستهدف السياسات المقيدة للتجارة في كثير من الأحيان المنتجات الزراعية الغذائية، لأن التعريفات الجمركية في هذا القطاع أعلى عموماً من تلك الرسوم المطبقة على القطاع الصناعي، بينما تنفذ العديد من الدول تدابير وقائية لحماية المزارعين المحليين من المنافسة الأجنبية، الأمر الذي يجعل قطاع الأغذية الزراعية حساساً لزيادة التعريفات الجمركية، وبحسب منظمة التجارة العالمية، فإن متوسط التعريفات الجمركية على المنتجات الزراعية يبلغ ضعف الرسوم المفروضة على السلع غير الزراعية تقريبًا. في عام 2023، بلغ متوسط التعريفات الجمركية التي تعهد جميع أعضاء منظمة التجارة العالمية بعدم رفعها فوق مستوى 54.4 % على المنتجات الزراعية، و27.6 % على المنتجات غير الزراعية، وعلى نحو مماثل، بلغ متوسط تعريفات الدولة الأكثر تفضيلاً، أي مستوى التعريفات الجمركية التي يفرضها عضو في منظمة التجارة العالمية على منتج لأعضاء آخرين 14.8 % على المنتجات الزراعية مقارنة بنحو 8 % على المنتجات غير الزراعية. عصر الحروب التجارية خلال ولاية ترمب الأولى، زادت التعريفات الجمركية على الواردات الزراعية القادمة إلى الولاياتالمتحدة، حتى من الدول التي تحظى بأفضلية تجارية من قبل واشنطن، وهو إجراء انتقامي معتاد في عصر الحروب التجارية، وعلى سبيل المثال، تشكل العلاقة بين كنداوالولاياتالمتحدة أهمية بالغة بالنسبة لقطاع المنتجات الزراعية في كلا البلدين، حيث يشتركان في واحدة من أكبر العلاقات التجارية الثنائية في العالم، وتعد واشنطن الشريك التجاري الأول ل أوتاوا، حيث تمثل ما يقرب من 60 % من إجمالي صادرات الأغذية الزراعية وأكثر من نصف وارداتها، وفي عام 2023، بلغ إجمالي التجارة الزراعية الثنائية بين الولاياتالمتحدةوكندا 66.2 مليار دولار، حيث صدرت كندا منتجات زراعية لأميركا بنحو 37.6 مليار دولار، واستوردت منها بنحو 28.6 مليار دولار. ومع ذلك، فإن هذه التجارة المربحة للغاية قد تواجه مخاطر كبيرة إذا عادت السياسات الحمائية التي انتهجتها إدارة ترمب السابقة إلى الظهور، فقد اتسمت تلك الفترة بتوترات سياسية متزايدة بين أوتاوا وواشنطن، مما أدى إلى تعطيل تدفقات التجارة والتأثير سلباً على التجارة الزراعية بين البلدين، وخلال فترة حكم ترمب الأولى، ظلت التجارة الثنائية في مجال الأغذية الزراعية راكدة إلى حد كبير، ولم تشهد كندا سوى زيادات طفيفة في صادراتها الغذائية إلى الولاياتالمتحدة، في حين انخفضت وارداتها من أميركا، في المقابل، انتعشت التجارة الثنائية في القطاع الغذائي خلال إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، من جهة أخرى، من المرجح أن يفرض شركاء واشنطن التجاريون تعريفات انتقامية على الصادرات الأميركية، وقد أعلنت المكسيك بالفعل أنها ستفرض تعريفات انتقامية إذا نفذ ترمب تهديده. التعاون هو الطريق إلى الأمام الواقع، أن تجارة المنتجات الغذائية في العالم معرضة بشكل كبير للاضطرابات، حيث تأخذ الشركات في الاعتبار المخاطر وعدم اليقين عند اتخاذ قرارات التجارة عبر الحدود، وعندما تصبح المخاطر المتصورة كبيرة، فإن الشركات تتردد في الانخراط في التجارة الدولية، وبالنسبة للولايات المتحدةوكندا، على سبيل المثال، فإن الحفاظ على علاقة تجارية مستقرة وتعاونية أمر ضروري، وخاصة بالنسبة لقطاع الأغذية الزراعية، الذي يدعم الأنشطة الاقتصادية والتوظيفية المهمة في كلا البلدين، حيث تسمح سلاسل التوريد المتكاملة للغاية والمزايا اللوجستية لكلا البلدين بأن يكونا شريكين تجاريين قويين في تجارة الأغذية الزراعية، وكما أظهر التاريخ، فإن التجارة المفتوحة تعزز النمو المتبادل، في حين أن السياسات التقييدية لا تعرض استقرار النظام التجاري العالمي للخطر. تقرير - د. خالد رمضان