في ظل الدمار الهائل الذي خلفته الحرب على قطاع غزة، تبرز أزمة المياه كواحدة من أقسى الكوارث الإنسانية التي يعاني منها السكان، حيث تراجعت حصة الفرد من المياه إلى مستويات خطيرة، لتسجل أدنى معدلاتها منذ سنوات. فبعد أن كانت الشبكات والآبار توفر الحد الأدنى من الاحتياجات اليومية، أصبحت غزة اليوم تواجه شحّاً غير مسبوق، زادت حدّته بسبب تدمير أكثر من 90 % من البنية التحتية لشبكات المياه، فضلاً عن انقطاع الإمدادات الإسرائيلية وشح الوقود اللازم لتشغيل الآبار. كشف تقرير رسمي فلسطيني عن انهيار حصة الفرد من المياه بنسبة 97 % لتتراجع من 84.6 لترًا يوميًا قبل الحرب إلى ما بين 3-15 لترًا فقط حاليا وتشير البيانات إلى أن الكمية المتاحة اليوم لا تتجاوز 10-20 % من إجمالي المياه التي كانت تصل إلى القطاع قبل الحرب. ومع كل قطرة ماء يبحث عنها الغزيون، تتكشف مأساة أكبر: شبكات مدمرة، آبار متوقفة، ومصادر ملوثة تهدد الصحة العامة. وأضحت هذه الأزمة لا تشكل خطراً على الحياة اليومية فحسب، بل تمتد آثارها إلى المستقبل، حيث أصبح الوصول إلى مياه نظيفة تحديًا وجوديًا لأكثر من مليوني إنسان يعيشون في القطاع، في ظل ندرة متزايدة وموارد محدودة. انهيار حصة الفرد وتحولت أجزاء كبيرة من القطاع -خاصة في شماله وجنوبه- إلى مناطق "منكوبة" وفق توصيفات أممية، بعد أن دمرت إسرائيل عشرات الآبار وشبكات التوزيع، ما جعل الحياة شبه مستحيلة في هذه البقعة الصغيرة. فقد تم استهداف مصادر المياه الرئيسية بشكل منهجي، وفقدت العائلات إمكانية الوصول حتى إلى الحد الأدنى من احتياجاتها اليومية. وتشير أرقام وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الأونروا إلى تدمير أكثر من 90 % من مرافق المياه والصرف الصحي، بينما تؤكد بلدية غزة توقف 80 % من آلياتها الخدمية، بما فيها مضخات المياه وآليات معالجة الصرف الصحي. اليوم، يعتمد الغزيون على محطات تحلية هشة، تبرعت بها جهات عربية ودولية، لكنها تظل غير كافية لتلبية احتياجات سكان القطاع. ولم تعد الطوابير الطويلة أمام نقاط التوزيع، ومشاهد نقل المياه في دلاء وخزانات بدائية، حالة استثنائية بل واقعاً يومياً يُجبر السكان على تقنين كل قطرة ماء. التحلية البدائية في مشهد يعكس عمق المأساة، اضطر آلاف الغزيين إلى اللجوء لمياه البحر للغسيل والاستحمام، بينما يحاول البعض تحليتها بطرق بدائية مثل التبخير عبر نار الحطب، دون جدوى تُذكر. أما محطات التحلية الدولية، التي كانت شريان الحياة الوحيد، فقد تعطلت بنسبة 95 % بسبب انقطاع الكهرباء ونفاد الوقود، ما أجبر السكان على الانتظار في طوابير تمتد لساعات للحصول على 20 لترًا من المياه كل أسبوعين. أسوأ أزمة في مشهد يختزل مأساة إنسانية متكاملة الأبعاد، يواجه قطاع غزة أزمة مياه هي الأسوأ منذ عقود، حيث أدت الحرب الأخيرة إلى تدمير ما يقارب 90 % من البنية التحتية للمياه والصرف الصحي وفق تصريحات اتحاد بلديات القطاع. إذ أكد حسني مهنا الناطق الرسمي للاتحاد أن الدمار طال بشكل خاص شمال وجنوب غزة، ما عطل بالكامل تقديم الخدمات الأساسية للسكان. وما زاد في تفاقم الأوضاع هو استمرار إسرائيل في منع دخول المعدات الثقيلة ومواد إعادة الإعمار، مما يحول دون أي محاولات جادة لترميم ما تبقى من شبكات المياه المتضررة. وأصبح المشهد اليوم في غزة يظهر شاحنات مياه غير معقمة تقف في طوابير طويلة أمام نقاط التعبئة، بينما ينتظر السكان لساعات لملء أوعية بلاستيكية مهترئة، في عملية نقل بدائية تعرض المياه للتلوث وتزيد من مخاطر انتشار الأوبئة. وتكشف الأرقام الرسمية أن 39 بئراً مائياً دمرت بالكامل، بينما تعرض 93 بئراً أخرى لأضرار جسيمة، ولم يعد يعمل من أصل 284 بئراً جوفياً سوى 17 % منها. شبكة المياه والصرف الصحي وحذرت وكالات مساعدات من أن مئات الآلاف من السكان في غزة أصبحوا بدون مياه بعد ضربات جوية إسرائيلية دمرت شبكة المياه والصرف الصحي وأن القطاع كله مهدد بأزمة مياه. وقال جاك دو مايو رئيس وفد اللجنة الدولية للصليب الاحمر في اسرائيل والاراضي المحتلة في بيان له "سيعاني سكان القطاع بالكامل من نقص حاد في المياه". وقال إنه اذا استمر الاقتتال ومع ارتفاع درجات الحرارة في المنطقة فان "المسألة لن تتعلق باحتمال مواجهة السكان المحاصرين أزمة مياه حادة". وأضاف دو مايو "المياه أصبحت ملوثة والصرف الصحي يفيض ويجلب مخاطر جمة للإصابة بالأمراض". وقالت اللجنة الدولية للصليب الأحمر وهي وكالة المساعدات المستقلة التي ساعدت فرقها في عمليات الإصلاح الطارئة إن العديد من مهندسي مياه البلدية قتلوا في الصراع وإن الجهة التي تزود غزة بالمياه أوقفت كل العمليات الميدانية لحين إمكان ضمان سلامة موظفيها. وقالت المتحدثة باسم اللجنة الدولية للصليب الاحمر ندى الدوماني في إفادة صحفية "المياه مشكلة ويمكن ان تتحول بسرعة الى كارثة". تكلفة نقل المياه تكلفة نقل المياه أصبحت باهظة بشكل غير مسبوق، حيث يصل سعر الكوب الواحد من المياه الصالحة للشرب ما بين 150 و200 شيكل، مما يعني أن تكلفة تعبئة عربة واحدة قد تصل إلى 1000 شيكل. "نحن كفريق نتكفل بهذه التكاليف من خلال المساعدات، ونوفر المياه مجاناً للنازحين ومراكز الإيواء"، يضيف عليان. أزمة عطش كبيرة من جانبه أكدت بلدية غزة أن المدينة تعيش أزمة عطش كبيرة بسبب توغل قوات الاحتلال الإسرائيلي في مناطق شرق المدينة، وتوقف خط مياه "ميكروت" الذي يغذي المدينة بنحو 70 % من احتياجاتها الحالية من المياه القادمة من الداخل. وأفادت البلدية، في منشور على صفحتها بموقع فيسبوك ، بأن "الخط يمر عبر المنطقة الشرقية في حي الشجاعية، وأنه توقف عن العمل". وأشارت إلى أن طواقم البلدية تُجري حاليًا تواصلاً مع الجهات المختصة للسماح لها بالوصول إلى مسار الخط شرق المدينة ومعاينته للتأكد من سلامته، تمهيدًا لإعادة توفير المياه للمواطنين. وأوضحت البلدية أن "خط ميكروت كان يغذي المدينة بنحو 20 % من احتياجاتها اليومية قبل بدء العدوان وحرب الإبادة في أكتوبر عام 2023". ولكن بعد العدوان وتدمير معظم آبار المياه، إلى جانب تدمير محطة التحلية المركزية الواقعة شمال غرب مدينة غزة، ونقص الطاقة والكهرباء. وأضافت: "أصبحت البلدية تعتمد بنسبة 70 % من احتياجها اليومي على مياه ميكروت، علما أن هذه المياه يُوزَّع جزء منها عبر خزانات محمولة على الشاحنات للمناطق التي لا تصل إليها مياه البلدية". وأشارت إلى أن "الاحتلال الإسرائيلي تعمد استهداف مرافق المياه خلال العدوان، ما تسبب بأضرار كبيرة وتدمير واسع في الآبار والشبكات، الأمر الذي خلق أزمة حادة في توفير وتوصيل المياه إلى مناطق واسعة من المدينة". ودعت بلدية غزة المواطنين إلى ضرورة ترشيد استهلاك المياه والتكافل فيما بينهم لتجاوز هذه الأزمة، مؤكدةً أنها ستعمل على توفير المياه بكميات محدودة من مصادر أخرى وفقًا للإمكانات المتاحة، وأنها ستواصل التعاون مع أصحاب الآبار الخاصة ولجان الأحياء في المناطق المختلفة لتوفير الوقود وتشغيل الآبار وتوفير المياه للمناطق المحيطة بها. وناشدت بلدية غزة المنظمات الحقوقية والدولية ضرورة الضغط على الاحتلال للكشف على الخط المغذي وإعادة تشغيله، ومنع وقوع كارثة صحية أو تفشي الأمراض، لا سيما مع بدء ارتفاع درجات الحرارة وازدياد الطلب على المياه. الماء سلاح حرب وكانت منظمات حقوقية، بينها هيومن رايتس ووتش وأوكسفام، قد اتهمت إسرائيل باستخدام المياه كسلاح، عبر حرمان الغزيين من الحد الأدنى الذي حددته منظمة الصحة العالمية للبقاء على قيد الحياة (وهو الحصول على كمية تتراوح ما بين 15 إلى 20 لترًا يوميًا). وأكدت تلك المنظمات أن هذه الممارسات قد ترقى إلى جرائم إبادة جماعية بموجب القانون الدولي لكن تل أبيب تواصل نفي هذه الاتهامات، رغم إعلانها قطع المياه والكهرباء وقد كشف تقرير للمنظمة غير الحكومية حمل عنوان "جرائم حرب الماء" أن تل أبيب استعملت عمدا الماء سلاحا عبر قطع هذه المادة الحيوية عن سكان القطاع والتدمير الممنهج للبنى التحتية إضافة إلى المنع المتعمد للمساعدات ما قلص نسبة المياه المتوفرة للسكان بنسبة 94% حيث لم يعد الفلسطيني يحصل إلا على 4.74 لتر في اليوم الواحد عن كل شخص. وتمثل هذه الكمية أقل من ثلث الحد الأدنى الموصى به في حالات الضرورة القصوى. وقد خلص تقرير أوكسفام إلى أنه :منذ بداية الحرب، وكل ثلاثة أيام كانت الغارات الإسرائيلية أو تلحق أضرارا بخمس منشآت للصرف الصحي ومرافق إمدادات المياه. فيما انخفض إنتاج المياه بنسبة 94 % في غزة بسبب تدمير البنى التحتية التي تزود السكان بالطاقة والمياه وفرض قيود على قطاع الغيار والوقود (حيث تسمح إسرائيل بدخول خمس الكميات اللازمة فقط) وقد انخفضت الإمدادات الخارجية الآتية من شركة المياه الإسرائيلية ميكوروت بنسبة 78 %. وقد دمرت إسرائيل بشكل كبير مضخات مياه الصرف الصحي و100 % من مصانع معالجة المياه العادمة إضافة إلى المختبرات الرئيسة لتحليل جودة المادة الحيوية في غزة. كما أن تل أبيب قيدت دخول معدات تحليل المياه التي جلبتها أوكسفام إلى قطاع غزة. ويسلط التقرير الضوء على النتائج الكارثية للشح الكبير في المياه الصالحة للشرب وتأثيرها عل صحة الفلسطينيين في القطاع: حيث يعاني أكثر من ربع (26 %) سكان القطاع من أمراض كان يمكن تفاديها.وكانت محكمة العدل الدولية قد ألزمت إسرائيل في يناير الماضي بضرورة تحسين ظروف دخول المساعدات على خلفية حدوث ما قد يرقى إلى إبادة جماعية هناك. ومنذ ذلم الحين، أصبحت أوكسفام شاهدا مباشرا على إعاقة إسرائيل لدخول المساعدات على نطاق واسع ما أدى إلى وفاة مدنيين فلسطينيين. الأممالمتحدة وتستخدم إسرائيل العقاب الجماعي والمجاعة كسلاح حرب. وأصبح استخدام الماء لأغراض عسكرية ما مع يمثله هذا من عواقب قاتلة. لكن التقييد المتعمد لحرية التزود بالماء ليس جديدا. فإسرائيل وعلى مدى سنوات تحرم السكان الضفة الغربية وقطاع غزة من الاستفادة من المياه النظيفة بما يكفي حاجتهم. وتدعو أوكسفام لاتخاذ إجراءات عاجلة وخاصة إلى وقف فوري ودائم لإطلاق النار كما تطالب المنظمة إسرائيل بأن تسمح بدخول المساعدات الإنسانية بشكل كامل إلى القطاع ودون معوقات وأن تدفع تكلفة إعادة تأهيل البنى التحتية للمياه والصرف الصحي. المياه ملوثة معاناة نقل المياه من مسافات بعيدة المعاناة في عيون الطفولة (أ.ف.ب)