هناك ظاهرة ملفتة للنظر، هي معارضة أوروبا لأمريكا. فهذا يحدث لأول مرة منذ الحرب العالمية الثانية، إلى درجة إن المتابع لا يصدق ما يراه ويسمعه. وبالتأكيد فإن الاختلاف بين حلفاء الأمس لا علاقة له بالمبادئ كما تحاول أن تظهر ذلك رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين - وهي رئيسة لاتحاد مهم ولكنها غير منتخبة، ولا مثلما تحرص على شرحه بطريقتها البدائية كايا كالاس الممثلة العليا للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية في أوروبا. فهذه الإستونية، التي أعلنت إن العالم الحر يحتاج إلى زعيم أخر غير ترمب، ينطبق عليها المثل القائل: قد تهجر الفتاة القرية التي نشأت فيها، ولكن القرية لن تهجر الفتاة مطلقاً. إنه خلاف حول المصالح. فالولاياتالمتحدة بعد الحرب العالمية الثانية، وخاصة بعد مشروع ماريشال، قد ربطت القارة المهزومة في الحرب باقتصادها. وهذه العملية أخذت أبعاد جديدة بعد الأزمة المالية- الاقتصادية العالمية عام 2008، حيث بدأت تتشكل الأوليغارشية الجديدة في الولاياتالمتحدة التي تضم 3 صناديق استثمارية ضخمة، وهي بلاك روك (Black Rock)، التي تملك أصول قيمتها 11.5 تريليون دولار، ومجموعة فانغارد (Vanguard Group)، التي تملك أصول قيمتها 8.6 تريليون دولار و شركة ستيت ستريت (State Street)، التي تملك أصول تصل إلى 4.2 تريليون دولار. فهذه الشركات الثلاث كما لاحظ السيناتور بيرني ساندرز تدير أصولاً في غاية الضخامة. فرأسمالها يزيد عن 24 تريليون دولار- وهذا مبلغ يقترب من الناتج المحلي الإجمالي في الولاياتالمتحدة. ولذلك هناك من يسمي المتنفذين في هذه الصناديق بالأوليغارشية، وهو مصطلح كان يطلق على الطغم المالية التي استولت على الاقتصاد الروسي بعد انهيار الاتحاد السوفيتي. ولكن في اختلافها عن الأوليغارشية الروسية تتحكم الأوليغارشية الأمريكية ليس فقط باقتصاد بلدها، وإنما الاقتصاد العالمي أيضاً. إن هذه الصناديق الضخمة أصبحت مسيطرة على البنوك والشركات الرائدة في قطاع الاقتصاد الحقيقي في الاتحاد الأوروبي، بما في ذلك ألمانيا، التي أصبحت الشركات الأمريكية تسيطر على 24 من أكبر 30 شركة مدرجة في المؤشر الرئيسي لبورصة فرانكفورت DAX 30. وعلى هذا الأساس فإن هذه الصناديق أصبحت مهيمنة ليس فقط على الاقتصاد الألماني والأوروبي وإنما على الدولة العميقة في القارة العجوز. وهكذا أسقط في يد أوروبا، فمع مجئ ترمب، وتعزز موقع من جاءوا به في الصناديق المشار اليها، أصبحت الدولة العميقة في أوروبا التي شكلتها الولاياتالمتحدة هناك فيما مضى، تحت شعار العولمة والتي تمثلها أورسولا وكايا كالاس، تقاوم الدولة العميقة الجديدة في الولاياتالمتحدة التي تبتعد عن العولمة بمقدار ما تقترب من أمريكا أولاً. وعلى ما يبدو فإن الحرب العالمية التجارية التي أعلنها ترامب سوف تحدد مستقبل الدولة العميقة ليس ققط في أمريكا، وإنما أيضاً في أوروبا. فإذا ربحت أمريكا هذه الحرب فإن الدولة العميقة التي جاءت بترمب سوف يتعزز موقعها، ومعها أنصارها في أوروبا أمثال مارين لوبان في فرنسا ونايجل فاراج في بريطانيا، والعكس بالعكس- فالننتظر عما تنفرج.