تظل الذكريات عن الطفولة متفرعة ومتشعبة، تتباعد حينًا وتقترب أحايين أخرى تبعًا للأحداث التي يمر فيها الإنسان، وبالأمس القريب في الرياض العاصمة مطرنا بفضل الله ورحمته، ومع أنني قد تناولت الحديث عن المطر غير مرة، وقد كتبت عنه قبل فترة يسيرة في هذه الصحيفة تحت عنوان (غيث السماء وأمزان السحب) باعتبار أن المطر باعث للخير والنماء إلى جانب ذلك فإنه يُحدث علاقة جمالية تستوقف الإنسان للتأمل في ملكوت الله وقدرته، والمطر وتداعياته تضعنا في عالم يمتلئ بالإيمان بقدرة الله سبحانه وتعالى، وكيف أن الله يجزي السحاب ويؤلف بينه ثم يجعله ركامًا فيخرج الودق من خلاله، واستتباعًا لذلك فإن المطر يغير من شعورنا ومن نظرتنا للوجود والحياة وتنساب الإثارة والجمال في جوف أعماقنا، ما يعني أن المطر لا يقتصر على رؤيتنا المجردة بل الدخول في تكوين رأي يتوافق مع ضيف السماء وبواعثه تداعياته وابتهالات ترتقي وعظمة الله عز وجل، لمعرفة فكرية يتسع فيها الخيال والإيمان بقدرة الخالق، وبالأمس القريب كانت أمطار الرياض مختلفة تمامًا عن السابق حيث كان المطر مصحوبًا بزخات البرد التي تساقطت بشكل كبير ومتسارع مع هبوب رياح قوية (عاصف) الأمر الذي عاد بالذاكرة إلى فجر يوم بعيد وأعاد الحياة الغائبة، ذكرني المطر بطبيعة صوته وطريقة هطوله مع هبوب الرياح وقرع صوت البرد المتسارع، ذكرني بأيام الطفولة، ذلك الصوت القادم من وحي القرية وبالشجن الذي لا يموت كمشاعر متداخلة في كل ما يعود بك إلى الزمن الجميل، وكانت المشاهد والأصوات محملة بكل مقاييس الماضي المفعمة بضحكات الطفولة وأقران المرحلة، وتحمل معها أسارير من البهجة والسعادة النازلة من عهد أمي وبيتنا الحجري الذي جثم قبالة حصن ريحان والمتجاور مع شجرة الرقع التي تمتد فارعة في السماء، فقد عَلِقَ في ذهني صوت المطر الذي امتزج بتلك المرحلة البعيدة التي لم أتمكن من العودة إليها بكد الذاكرة فالزمن يتفلّت منا والأيام شاردة فلا نكاد أن نلتقط الأنفاس في وتيرة منتظمة مع ضجيج الحياة وتسارع الأيام والمشاغل التي لا تنتهي، وبينما أنا أقف على أصوات مطر الأمس لا يزال الشجن يهمي على تلك المرحلة بمشاعر متعالقة ومتداخلة، وأنا أرمق طيفها البعيد كلما سنحت الفرصة كملامح للوجود في مسرح الطفولة فتطوف ذكراها لألتقط بعضًا من وجهها المليح التي كانت كل أماكنها ومشاهداتها ممزوجة بأصوات الرعد وأضواء البرق وديم المطر، مع ملامح من أشعة الشمس في لحظات الأصيل وتناثر الشفق في أفق السماء وقبلها قد خط قوس قزح مزيج ألوانه ليشكل لوحة بديعة ليتناغم دفء الشمس مع بياض الغمام السابح في فلك السماء مع تغير بائن للأنواء وأحوال الطقس، وكلما مربي طيف مرحلة الصبا استعدت متعة ذلك الوقت وهدوء ليله وملامح مواقع النجوم البعيدة وأصوات الكائنات الليلة التي تدخلك في سكون لا ينتهي داخل القرية الريفية وكل ملامح المكان الأليف، لنكون اليوم على النقيض من ذلك تماماً ضمن عالم القرية الكونية الواسع بكل أبعاده وتغيراته وصخب ضجيجه... وإلى لقاء.