"من بغداد مع الحب" عنوان المعرض الذي أقامه الفنان التشكيلي العراقي فائق حداد في غاليري "زمان" في بيروت شارع السادات مشتملاً على 44 لوحة زيتية يستعيد فيها ذكريات طفولته في أحياء بغداد وشوارعها وبساتينها. في هذا المقام من الاسترجاع تستمد كل لوحة مقوماتها من الذاكرة البصرية والعاطفية التي تتصدرها عناوين بعض دواوين الشعراء الكبار مثل ديوان"أنشودة المطر"لبدر شاكر السيّاب. من باب الآغا إلى حي العباسية والرشيد والكاظمية إلى أبواب الهجر والكوفة والدربونة انتقالاً إلى بساتين النخيل حيث مرتع الطفولة وأحلام الصبا. ومن المقامات اللونية ذات الغنائية المتوهجة إلى الليالي البغدادية، يجول الفنان في خواطره ملأه الشوق، كما تجول ريشته في الأمكنة بحثاً عن حنين دفين لا رجاء له سوى باسترجاع معالم المدينة والقرية والأحياء القديمة، في حين أن النسوة لا يغبن عن مشاهده واستذكاراته في نوع من الوجود الملغز الموصوف بالإبهام من فرط ما هو مؤسلب. لوحات تبدو في مشهدياتها مقتبسة من أحياء بغداد، وبيوتها ونوافذها وشناشيلها وأزقتها، يستشعرها الرسام مراراً بالألوان التناقضية أوالتكاملية التناغمية في تلقائية سريعة، لكأنه يعرف دروبه مسبقاً وكذلك وسائله في التشكيل والتوليف اللوني ضمن مسار يتردد في اتجاه واحد. أكثر ما يلفت في لوحات فائق حداد الأشكال المروحية للنخيل في اخضرار البساتين حيث تظهر النساء بالجلابيات السود جالسات أو عابرات سبيل، يتوافدن في المناظر المدينية أو الخلوية زرافات ووحداناً، كأن المرأة تختصر في حضورها الانتقائي كل فئات المجتمع. فالإيحاء هو مبتغى غالبية الإنتاج الفني الذي يزاوج بين التعبيرية - الواقعية والتجريد. ولئن كان الشكل المعماري المتمثل في هياكل مدينة بغداد بأبوابها ونوافذها في صمت الليالي أو ضجيج ألوان النهار، هو أكثر ما يتردد في إلحاح يتنوع لونياً، غير أن التجاور اللوني لضربات السكين والتلطيخ بالألوان السميكة من الأنبوب غالباً ما يحيل الرؤية الواقعية إلى الافتراض الحلمي لتكاوين المدينة المشيدة من مفردات شكلانية. وبغداد لناظريها البعيدين والمنفيين ما زالت جميلة، والرؤى حولها تتداعى وهي مدينة الشعر والفن ومنبع الإلهام والاكتشاف للجذور. هكذا ظهرت بغداد لشاب بدأ حياته في مهنة المحاماة غير أن إعجابه بنصب الحرية للفنان جواد سليم حرضه على دخول محترفه كي يتتلمذ عليه ويكتشف لاحقاً مدى ولعه بالفن. ورغم انه عاش متنقلاً في بعض المدن العربية ومنها بيروت، لكن مخيلته لم تبرح العراق، لذا كان يدفعه الشوق إليها، كل مرة إلى كتابة قصائد حب، باللون والضوء، بالروض الأخضر واحمرار أزهار الربيع وجريان الأنهار والطلعة البهية للمرأة التي يراوده طيفها في كل الأمكنة التي يرسمها. في بعض المناظر المدينية يسبغ فائق حداد على مناخات لوحاته ألوان الصحراء الترابية والصفراء، بضربات موجزة ومعبرة، في حين انه يضفي نوعاً من البهجة اللونية الحارة على مناظره الخلوية، وبين هذا وذاك، يظهر في إنتاجه مجموعة من الأعمال التجريدية تستعيد إنجازات مدرسة باريس للتجريد الغنائي، وهي تعتمد على اتجاهات التلطيخ اللوني بالسكين في اختصار مشهدي للّوحة التي تحمل سلفاً بعض المكونات الواقعية. فهو بإمكانه أن ينتقل سريعاً وبمهارة من الواقع إلى التجريد من خلال وسيط أساسي هو الطريقة الاختصارية في التشخيص. إذ انه يجرد الأشكال من الملامح ويطوف بطبقات الألوان ويسحب خصلات الضوء ويسلطها على بعض المواقع، يحذف ويختزل ويستبقي من معالم الموضوع الحركات الأساسية التي توحي بخلفية المضمون. تنتمي تجربة الرسام فائق حداد إلى مدرسة بغداد وهي على غرار تجارب الرسامين العراقيين المحدثين، تقوم على استلهام أساليب الكبار من الفنانين أمثال فائق حسن وجواد سليم وشاكر حسن آلپسعيد وسواهم من الذين أوجدوا لتعبيريتهم المشرقية - التراثية مكانة بارزة في اتجاهات التشكيل العربي منذ السبعينات من القرن المنصرم. فإن تجليات الفن الشعبي العراقي ذي الطابع الإنساني والمناخات التي تعكسها الليالي البغدادية بأنسها وانشراحها لا تخلو من القيم العاطفية والشجن التعبيري الثري.