شكّل القليب (بئر الماء) عنصرًا أساسيًا في حياة سكان الجزيرة العربية والمناطق الصحراوية، حيث كان المصدر الرئيس للمياه في بيئة قاسية تعاني من شُح الموارد. ورغم بدائية الأدوات آنذاك، برع الأجداد في تصميم وحفر هذه الآبار بأسلوب هندسي متقن، مما يعكس قدرتهم الفريدة على التكيف مع الظروف الطبيعية وتطويعها لخدمتهم. فقد كانت تُحفر يدويًا وتُبطن بالحجارة لضمان استقرارها، على عكس الآبار الحديثة التي تُحفر بتقنيات لا تحتاج إلى تبطين، لم يكن حفر وطوي القليب مجرد عملية روتينية، بل كان يتطلب مهارات دقيقة وخبرة متوارثة، حيث أظهر الحرفيون براعة في بناء جدران البئر بطريقة تضمن متانته لسنوات طويلة. تبدأ العملية باختيار الموقع بناءً على دلائل طبيعية مثل طبيعة التربة والنباتات، ثم يُباشر الحفر بأدوات بسيطة مثل العتلة، الهيب، والمسحات. وبعد الوصول إلى العمق المناسب، تُصف الحجارة بدقة داخل الجدران لتشكل بنية متماسكة تحمي البئر من الانهيار وتحافظ على نقاء المياه، من أبرز التقنيات المستخدمة في طوي القليب إنشاء «العب»، وهو نفق مائل يُستخدم لتسهيل النزول إلى قاع البئر للصيانة أو تشغيل المضخات. وقد كان الحرفيون المتمرسون يُعرفون بلقب "أستاد"، ويتميزون بمهاراتهم العالية في تحديد حجم البئر، حيث كانوا يسألون صاحبه: "تبون إبرة ولا مخيط؟"، في إشارة إلى قطر البئر المطلوب، يتكون القليب من عدة أجزاء تؤدي وظائف مختلفة، مثل الدامغة، المحالة، الرشاء، الغرب، الدراجة، اللزاء، السريح، المنحاة، الجابية، العرايس، الزرانيق، العوقدة، وغيرها. كما كانت أدوات استخراج المياه تشمل الدلو، الرشا (الحبل المستخدم للرفع)، والعراجي (حبال قوية لسحب كميات كبيرة من الماء). وكان الفلاحون يستخرجون الماء قبل الفجر في عملية تُعرف ب"التصدير" لري المحاصيل وضمان توفر الماء لسكان القرية، لم يكن القليب مجرد وسيلة للحصول على الماء، بل كان جزءًا من النسيج الاجتماعي، حيث كان ملاك الآبار يتيحونها للعابرين دون مقابل، تجسيدًا لقيم الكرم المتجذرة في المجتمع. كما ارتبط القليب بالأدب والشعر، فكان رمزًا للتحمل والصبر، كما في بيت الشاعر الذي يقول: "الله من همن طوى حالتي طي طي القليب اللي بعيدٍ شرابه" رغم تطور تقنيات الحفر الحديثة، تظل تقنيات طوي القليب درسًا في الاستدامة، إذ يمكن استلهامها لتطوير حلول عملية في المناطق الصحراوية، خصوصًا في ظل الحاجة إلى موارد مائية مستدامة. وما زالت بعض هذه الآبار قائمة حتى اليوم، شاهدة على مهارة الأجداد وعبقريتهم الهندسية، مما يجعلها إرثًا يستحق التقدير والدراسة، طوي القليب ليس مجرد ماضٍ، بل نموذجٌ يُلهمنا اليوم لمواجهة التحديات بطرق تتسم بالبساطة والفعالية. عبدالعزيز بن سليمان الحسين