يُعدّ الاقتصاد الإبداعي واحدًا من أبرز القطاعات المؤثرة في التنمية المستدامة، ليس فقط لدوره في تحفيز النمو الاقتصادي، بل أيضًا في تعزيز الهوية الوطنية وحماية التراث الثقافي. وتعمل العديد من الدول، بما في ذلك المملكة العربية السعودية، على تطوير هذا القطاع كجزء من استراتيجياتها الوطنية، نظرًا لما يقدمه من فرص اقتصادية وإمكانات لتعزيز الانتماء والاعتزاز بالهوية الوطنية. يُعرف الاقتصاد الإبداعي بأنه الاقتصاد القائم على المعرفة والإبداع، والذي يشمل قطاعات مثل الفنون، التصميم، الإعلام، البرمجة، الترفيه، والصناعات الثقافية. ووفقًا لتقرير الأممالمتحدة للتجارة والتنمية (UNCTAD, 2022)، فإن الاقتصاد الإبداعي يمثل 6.1% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، ويحقق معدل نمو يبلغ 9% سنويًا، متجاوزًا العديد من القطاعات التقليدية. أما في المملكة العربية السعودية، فقد شهد الاقتصاد الإبداعي نموًا ملحوظًا في السنوات الأخيرة، حيث تسهم الصناعات الثقافية والإبداعية بنسبة 3% من الناتج المحلي الإجمالي، مع توقعات بارتفاعها إلى 5% بحلول 2030 وفق رؤية المملكة. كما يوفر القطاع أكثر من 100.000 فرصة عمل مباشرة وغير مباشرة، مما يعكس دوره المحوري في الاقتصاد الوطني. لا يقتصر الاقتصاد الإبداعي على الجانب الاقتصادي فحسب، بل يمتد ليكون أداة للحفاظ على التراث الثقافي وتعزيز الهوية الوطنية. ومن أبرز مظاهر ذلك: 1. الحفاظ على التراث الثقافي وترويجه عالميًا تتيح الصناعات الإبداعية إعادة تقديم التراث السعودي بأساليب معاصرة، من خلال الأفلام الوثائقية، والفنون التشكيلية، والتصميم المعماري، مما يسهم في نقل الثقافة السعودية إلى الأجيال الجديدة والأسواق العالمية. ووفقًا لوزارة الثقافة السعودية، فإن عدد الفعاليات الثقافية التي تم تنظيمها خلال عام 2023 بلغ أكثر من 1.200 فعالية، حضرها ما يزيد عن 4 ملايين زائر. 1. دعم ريادة الأعمال الثقافية وتعزيز الاقتصاد المحلي تشير الإحصاءات إلى أن 70% من المشاريع الناشئة في القطاع الإبداعي بالمملكة يقودها شباب سعودي، مما يعكس الاهتمام المتزايد بتوظيف الإبداع في بناء اقتصاد مستدام. كما أظهرت دراسة لهيئة تطوير الصناعات الثقافية أن 57% من السعوديين يفضلون شراء المنتجات المحلية ذات الطابع الثقافي، مما يعزز سوق الحرف التقليدية والتصميم الحديث المستوحى من التراث. 1. الإعلام وصناعة المحتوى كمنصة لنشر الثقافة السعودية مع تطور الإعلام الرقمي، أصبحت منصات البث الترفيهي والإعلامي وسيلة قوية للترويج للهوية الوطنية، حيث تشير التقارير إلى أن المحتوى الثقافي والتراثي السعودي شهد زيادة في المشاهدات بنسبة 45% خلال عام 2023. كما أن الأفلام والمسلسلات السعودية بدأت تحقق حضورًا عالميًا، حيث فاز فيلم "حد الطار" بجائزة عالمية، مما يؤكد أهمية دعم الإنتاج الإبداعي المحلي. على الرغم من الفوائد الكبيرة للاقتصاد الإبداعي، إلا أنه يواجه تحديات عدة مثل نقص التمويل، وصعوبة حماية حقوق الملكية الفكرية، والحاجة إلى بنية تحتية تدعم الإبداع والابتكار. لذا، فإن تعزيز الاقتصاد الإبداعي يتطلب سياسات داعمة واستثمارات مستدامة في التعليم والتدريب والبنية التحتية. لذلك تضع رؤية السعودية 2030 الثقافة والاقتصاد الإبداعي ضمن أولوياتها، حيث تم إطلاق العديد من المبادرات لتعزيز هذا القطاع، مثل: صندوق دعم الصناعات الثقافية الذي يهدف إلى تمويل المشاريع الإبداعية، وقد بلغت قيمة الاستثمارات فيه أكثر من 500 مليون ريال سعودي. برنامج الابتعاث الثقافي الذي يتيح للشباب الدراسة في أرقى الجامعات العالمية في مجالات الفنون والتصميم والإعلام الرقمي. مشروع "الدرعية" و"العلا" كمراكز ثقافية عالمية تعكس التراث السعودي بأسلوب حديث، مما يعزز السياحة الثقافية ويحقق عوائد اقتصادية مستدامة. وهنا نؤكد على أهمية دور الوزارات والجهات المعنية في مجالات الثقافة والترفيه والإعلام في تفعيل مثل هذه المبادرات بالشراكة مع قطاعات الأعمال المختلفة، وإجراء المزيد من الدراسات لقياس الأثر والعمل على التطوير والتحسين المستمر للبرامج القائمة وتحفيز الابتكار الإبداعي لتنفيذ العديد من المشاريع والبرامج النوعية التي تعكس هويتنا الوطنية وإرثنا التاريخي العريق، وما تتمتع به المملكة من مقومات بيئية واقتصادية واجتماعية أكسبها الميزة التنافسية عالميًا. ختامًا.. يمثل الاقتصاد الإبداعي جسرًا بين التنمية الاقتصادية وتعزيز الهوية الوطنية، حيث يسهم في نمو الاقتصاد، خلق فرص عمل، ونقل التراث السعودي إلى العالمية. ومع استمرار الدعم الحكومي والتطور التكنولوجي، يمكن لهذا القطاع أن يكون محركًا رئيسيًا لتحقيق رؤية المملكة 2030، وترسيخ مكانة المملكة كواحدة من أبرز مراكز الإبداع والثقافة في العالم. *خبير المسؤولية الاجتماعية والاستدامة