تُغيّرُ العوامل التاريخية من صيغ وطرق العلم ونقله بين الأجيال. ومع طيّ الأزمنة، وتغيّر العوائد، وتكثّر الاختلافات؛ قد يُفهم أو يقوّم السابق بمنظور اللاحق، دون نظر لشرائط ما سبق. وللاحق سلطة على السابق، كسلطة الأحياء على الأموات، لتحكّم الفعالية قولاً وعملاً. ومن الهيمنة العلمية في طرق العلم والتعليم في القرون المتأخرة طريقة الكتابة، وهذه الطرائق تعيد تأهيل المتسنّم لها بحسب مجاله. وفي الحضارة الإسلامية كان المنطوق مقدماً على المكتوب، في أهم علوم الإسلام: علوم الشريعة وعلوم اللغة، أما الشريعة فالقرآن لا يُنقل إلا مشافهة بالتواتر، وأما الحديث، فله طرق تحمّل وأداء، وتراتبيتها من الأعلى حتى الأخس، وهي: السماع من الشيخ مباشرة، فالعرض عليه، فالإجازة، فالمناولة المقرونة بالإجازة، فالمكاتبة، فالإعلام، فالوصيّة، فأخسّها: الوجادة؛ إذ كل الطرائق المتقدمة يشترط لأغلبها وجود صلة بين الشيخ والتلميذ، أو المتلقي والملقي، إلا الوجادة، وقد أجاز بعضهم الوجادة بشروط، لكنها في حكم الأحاديث المقطوعة ونحوها. والوجادة هي أن يجد المتلقي كتاباً أو مكتوباً بخط شيخه، أو عن راوٍ ثقة، أو بنحو ما يثبت اتصال المكتوب لشيخه، ومع هذا فهي أقل مراتب التوثيق. كذا ذكر السيوطي ست طرائق لأخذ وتحمل اللغة، الأولى السماع، فالقراءة على الشيخ، فالسماع على الشيخ، فالإجازة، فالمكاتبة، فالوجادة. ويظهر فيما ذكره أن من وجَدَ نبّه على مرتبة العلم التي تلقى منها، وهي "وجدته دون سماع"، وفيها إشارة لتلقٍ خلاف الأصل (السماع). فالعلم في الحضارة الإسلامية بنيان وثيق، لا يمرر بمكتوب لا يُسند، أمّا الكتابة المنفردة ففي أدنى المراتب. لذا يغمضُ جزءٌ معتبر من المكتوب لأنه لم يقترن بفقه نقله. كذا المناظرات التي تُعقد، كانت في أصلها منطوقة، حاضرة، تنتظم معها شروط المناظرات المنطوقة. وفي زمننا صار التقديم للمكتوب في تحرير العلوم، وبقيت الإجازات وما فوقها من مراتب مؤهلات لتحصيل شرائط التأهل العلمي، وإن ضعفت عند بعض الجهات. وهذا لا يقطع سند العلم فحسب، بل يقطع سند الفهم، فيقرأ الطالب ويبحث دون أن يفقه الكتاب جيلاً عن جيل، وتزداد الفجوة بين الكاتب والمتلقي. وهذا التحول لمركزية المنطوق لم يؤثر على العلوم الشرعية فحسب، بل حتى أصل العلوم الفلسفية تحول نحو المكتوب الذي اختزل الطرائق المتقدمة، فالنقاش والجدل الفلسفيان احتكما أكثر للمكتوب، ولتحليل اللغة، والانقطاع عن نموذج الإحالة، فضلاً عن الآداب المرافقة للمنطوق بين المتناظرين، وما يلحق ذلك من التأثير في المتلقي من جمهور حاضر إلى جمهور متوقّع للمقروء. الإشارة المرادة مما مضى هي: التنبه إلى السلطة التي تحكم طرق تلقي العلم، وكيف تتشكل من حولها دوائر تناقله، وكيف تؤثر هذه الدوائر على الفهم والإفهام، فضلاً عن المعتمد وغير المعتمد بحسب كل علم. وزمننا بدأت طرائق البحث العلمي تفوق كل الطرق العلمية المتقدمة، فصار زمننا زمن كتابة، والكتابة صنعة.