الكاتب: هواري تواتي الكتاب: الاسلام والرحلات في القرن الوسيط الناشر: دار سوي للنشر، باريس، الطبعة الثانية، 2001. يقارب كتاب هواري تواتي مواضيع ومجازفات أعمق مما يوحي عنوانه المتواضع. فالكاتب يحلل فعلاً الدور الذي ادته الرحلات في بناء الثقافة الاسلامية الكلاسيكية. وهو دور حاسم، كما يذكرنا في الفصلين الأولين. لأن الحضارة الاسلامية تقوم على وعي حاد بنفيها من الصحراء الى المدينة وأيضاً الى سكون الله. نشأ الاسلام في قلق من الخسارة. خسارة المعرفة التي اخذها في فترة الدعوة وبدأت تتراجع مع غياب جيل الصحابة. والقلق على ضياع لغته حين ترك المسكن العربي القديم مع اتساع الغزوات أو الفتوحات. مسفر الاسلام في القرون الأولى هو في البدء أس واحد، عودة الى الجذور، أو هو بالأحرى توطيد لسلسلة من المراحل والأجيال التي أرست الاسلام - وهو الذي وصل الى أقاصي الأرض وانشغل بالحياة المدنية والمهدد بالنسيان نظراً الى شساعة المسافات وخليط الشعوب المنضوية - وربطته بمهده العربي والنبوي. بهذا المعنى، فإن تواتي يقرّب بين سفر المثقف والألسني أو جامع "الحديث" من "الاسناد" وهو صنف رئيسي من الثقافة الاسلامية القروسطية متعلقة بالقرون الوسطى وكما الاسناد، الذي يشكل في النهاية احد وجوهه، فإن السفر يحبك وحدة المعرفة الاسلامية ويعطي تجانساً وسيراً شرعياً لمراجع شمولية ويقابل بقوة تفتح الذاتيات. والرابط بين الطرفين الكامنين للسفر - المركز والأطراف - يحدده تحليل ضغط الحج الى مكةالمكرمة والجهاد الى التخوم التي تنظر اليها التقاليد والحقوق احياناً وكأنها وجها مسيرة واحدة. وربما يمكننا الى الأمثلة التي يقدمها الكاتب اضافة التجربة المنسوبة للخليفة هارون الرشيد الذي ناوب، من عام الى آخر، المعركة على الحدود بترؤس مسيرة الحج، وأيضاً الاستشارة الشهيرة لأبو الوليد ابن رشد الجّد الذي اقترح ان يطبق الاندلسيون أو المغاربة عادة الجهاد بدلاً من السفر التي أصبحت خطيرة للغاية بنظره. ويشار الى ان تجربة السفر لم تمر من دون مخاطر، أو من دون معاناة. ففي فصل مميز يتمسك فيه الكاتب لنبش شهادات نادرة لم تؤخذ في الاعتبار حتى اليوم، فإن تواتي يؤكد على تقشف "باحثي العلم": الريب من الغد، وقلة النوم، والموت بعيداً من مسقط الرأس. لا شك في ان هذا العذاب المعترف به تحول الى فكر عام. الا انه يؤكد بصورة أفضل بروز عالم نموذجي. ورع ومتألم، ناحل ومتحمس، يمكننا هنا أيضاً ان نقربّه من "المجاهد" الذي يعتبر جهده و"صبره"، في المعنى الأصلي للكلمة، الفضيلتين الأساسيتين أكثر من قدرته العسكرية. ما يزعج أكثر هو تعددية المصادر: الحجاز الذي هو هدف "المحدّث"، وبدو شبه الجزيرة العربية وهم الأقل تأثراً بالحضارة، وحدود ما يصل اليه اللغوي في ترحاله. السفر يبرز تعدد، أو بالأحرى صراع، المراجع العربية في الاسلام قبل ان يحسم بينها القرآن أو السنة اللذان قررا معاني اللغة فيما لم تقرر اللغة البدوية معنى القرآن و"الحديث". بصورة أعم ما تحمله "البداوة" والإرث العربي من قيم الجاهلية، والفوضى والتحلل، في قلب الاسلام، لا بد وان يحصر أو يتحول. تواتي يعطي مثلاً استتار أو احتجاب "السائحين" لمصلحة قراءة "الصائمين" بحسب التفسير المتشدد. وأخيراً هناك نزاع أكبر يعبر الأزمنة الفاصلة - بين القرنين الثامن والعاشر الميلاديين خصوصاً - في بناء الهوية الاسلامية الكلاسيكية: وهو مشكلة العين والأذن، أي الشفاهة والكتابة، اللتين تحتلان الحيز الأكبر للكتاب. الهدف من السفر هو بالفعل الاصغاء أي التعلم من فم المعلم ذاته أو المخبر. هذا البحث عن الرسالة الشفهية "السماع" يبقى النموذج العام للتعلم في اسلام القرون الأولى. وهو لن يتم من دون بعض "الاسمانية". الهدف هو التقاط أو تجميع الكلمات من دون الاهتمام دائماً بالأشياء المفروض ان تدل اليها. فاللغوي أبو عبيدا الذي أرغمه أحد الوزراء العباسيين على التقيد بتعيين اسماء المفردات البدوية التي جمعها على كل جزء من شكل حصان قدموه له، عدل عن ذلك. فهو يعرف الأسماء وليس عليه معرفة الأشياء أي أعضاء الحصان. فسيطرة الكلمة المسموعة تصدم بالفعل مباشرة قدرة العين على الأحتواء: فالمعلمون المتشددون لم يتوانوا حتى في القرنين التاسع والعاشر من تدمير أي اثر مكتوب لتعاليمهم قبل موتهم، كي يمنعوا "الوجادة" أي اللقية المكتوبة من معاكسة امبراطورية السمع العلم المسموع. الا انه، وفي الفترة نفسها، فإن المعجبين بتراث الأقدمين، مثل الجاحظ، وبعده كبار جغرافيي القرن العاشر، ردوا الاعتبار لل"عيان" أي الشيء المنظور باعتباره احد الدلائل على الحقيقة، مثل ما أظهرها اندريه ميكال. وفي الفترة ذاتها سيبطل السفر في الصحراء. عاملان اثنان يشرحان الأمر: من جهة ازدهار "الكتابة" المنتشرة أكثر والمجندة في أواسط البلاط، وبصورة أعم ما يمكن تسميته ب"الثقافة الامبراطورية" في ذروة العصر العباسي، ومن جهة اخرى، وعلى نسق هذا التحديث، أو كرد فعل عليه، التعلم بالكتابة للمعرفة المتشددة والقانونية - خصوصاً في مجموعات "الحديث" المهمة - التي ستنهي زمن البحث وتجميع المصادر. وعندما سيستعيد نموذج السفر حقوقه مع "الرحلة" سفر المعرفة للعالِم الشاب، ابتداء من القرن الثاني عشر، فلن تتم مراجعة البدو Bedovins أو المخبرين "المدنيين" Medinois، وإنما المعلمين الذين يمثلون العواصم الكبرى للاسلام. فعالم "العلماء" ثبّت نفسه بسلطة كلمته المستندة الى مزايا الأصول. لن يبقى السفر مجرد عودة في الزمان والمكان، وانما هو حلقة، كل نقطة من محيطها، تؤكد على اتفاق آراء العلماء. بالإجمال، هذا الكتاب المميز، والنابض بالحياة، والمكتوب بلغة جيدة، يطرح معظم المشكلات الرئيسة للاسلام "الكلاسيكي"، ولا يمكن عرض أو تحليل كل غناه. فإن البحث الذي اجراه هواري تواتي متضمناً قدرة تحليل مميزة ومستنداً الى كم كبير من المراجع، يفرض نفسه حاجة وضرورة للمزيد منه. ترجمة: ميراي يونس