بظنّي أنّ الدبلوماسيّة مزيجٌ من الموهبةِ والمهارةِ والحرفيّة؛ لكونها حِرفَة قد لا يستطيعُ تملّك زمام أمرها إلا من كان لديه أركانها، فليسَ كل من درس الدبلوماسية أو العلوم السياسية بقادر على أن يمتلكها؛ فهيَ كالشعر والأدب؛ لا يُملَك زمام أمرها بالدراسة النظريّة فحسب؛ حيثُ إن الدبلوماسيّة والشعر يحتاجان إلى سرعة البديهة واقتناص الموقف أو المواقف، ولذا قد لا يمهر بالدبلوماسية إلا قليلٌ من أولئك المشتغلين فيها. ويقيني أنّ الدبلوماسية قد لا تُؤخذ من مقاعد الدراسة فقط؛ بل من الاحتكاك المُصاحِب للمهارة؛ حيث لهما قصب السبق والأولوية، والركن الأول مُعززًا. ضمن أنشطة النادي السعوديّ في مدينة مانشستر البريطانية؛ عُقد لقاءٌ حواريّ مفتوح مع صاحب السمو الملكيّ الأمير خالد بن بندر بن سلطان بن عبدالعزيز سفير خادم الحرمين الشريفين لدى المملكة المتحدة. حضر اللقاء جمعٌ غفير من الطلبة والطالبات، وقد قُدِّرَ لي أن أحضرَ ذلكم اللقاء، ومن حسن الطالع أن عُقِد في مركز التراث الإسلاميّ البريطانيّ الذي أسسه جدّه المغفور له -بإذن الله- صاحب السمو الملكيّ الأمير سلطان بن عبدالعزيز، جعل الله ذلك في ميزان حسناته، وهذا ما دأبت عليه المملكة العربية السعودية في هذا الجانب. كان اللقاء دبلوماسيًا؛ ولكن بأسلوبِ وطريقةِ ومنهجِ الدبلوماسيّ البارع، حيث نحى سمو الأمير السفير عن الدبلوماسية الصِرفة، واستعاضَ بالأبوّة الحقّة والإخوّة الصادقة. اعتذر عن تأخره لبضع دقائق؛ لارتباطه بغداء عمل مُسبق، ألقى التحيّة والسلام، وبدأ حديثه بلا تكلّفٍ، وطلب من أبنائه وإخوته أن يبدؤوا بالحديث، وبطرح ما يعنُّ لهم في بلاد الغربة وما هم بحاجةٍ إليه، كانت الإجابات مريحة وصادقة وعفويّة بامتياز. كان سمو السفير مُستمعًا بارعًا؛ استمعَ أكثر مما تحدث رغبةً منه أن يتحسس ويتلمّس ما يواجه الطلاب والطالبات من صعوبات؛ لإدراكه كل الإدراك صعوبة الغربة وما يتخللها من متاعب ومشاق، إلا أنّ ما يُهوّن ذلك -كما يقول سموّه مُخاطبًا إيّاهم- هو الأمل المُشرق حيثُ مستقبل بلادهم، فهم من سيواصل حمل الشعلة والسير إلى الأمام، فبلادهم بانتظارهم؛ ليكونوا أيادٍ للبناء والإعمار والنهضة والازدهار؛ لاسيما وأنّهم في عصر الرؤية الوطنية 2030 وما تتطلبه من عملٍ دؤوب وفكرٍ واعٍ؛ فالرؤية الوطنية هي تلك الأم الحنون التي بفكرها وعطائها ازدادت نهضة بلادهم وأشرق نورها، فهم محظوظون؛ حيثُ ورش الرؤية الوطنية 2030 -التي يقودها ولي العهد صاحب السمو الملكيّ الأمير -محمد بن سلمان- فرصة لنيل الخبرة والتجربة والمشاركة في صنعها؛ فعليهم شد الأحزمة ورفع الهمّة. ولقد استطردَ صاحب السمو الملكيّ الأمير خالد بن بندر، بأسلوبٍ دبلوماسيّ أخّاذ، وبلغةٍ غاية في الذكاء. ولا غروَ في أن يتحدث سمو الأمير بهذا الحديث الأبويّ الأخويّ؛ فهو سليلٌ أمارة ودبلوماسية، درس الدراسات الشرقية في الحضارة الإسلاميّة في جامعة أكسفورد بالمملكة المتحدة، وبأكاديمية ساندهيرست الملكية العسكرية، وكذلك مدرسة فليتشر للقانون والدبلوماسية، وورث السياسة كابرًا عن كابر، فوالده الأمير السفير بندر بن سلطان، فلا عجبًا أن يشبه الليث شبله وحقًا على ابن الصقر أن يشبه الصقرا. وجده لأمه جلالة الملك فيصل -رحمه الله-، فالأمير عاش مُعترك السياسة في بيوت السياسة والأمارة. ولذا نجده في هذا اللقاء الحواريّ مع أبنائه وإخوته الدارسين في الخارج لم يتطرق إلى مهام السفير الدبلوماسيّ ولا العلاقات الدوليّة، راعى مقتضى الحال، وما أولئك الطلبة حاضرون من أجله، شدّ على أيديهم وحفّزهم أن يُبدوا آرائهم وملحوظاتهم. وبهذا اللقاء الأبويّ الصادق، تتأكد وتتوثّق سياسة الباب المفتوح المُشرَع؛ التي تنتهجها حكومة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز وولي عهده الأمين صاحب السمو الملكيّ الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز -يحفظهما الله-؛ حيث يؤكدان دائما وأبدًا على سياسة الباب المفتوح وأن لا حواجز ولا موانع، فلا حواجز بين الراعي والرعيّة. خلص المجتمعون أو الحاضرون إلى أن الدبلوماسية نهجٌ وطريقةٌ وأسلوبٌ ومنهجُ عمل، لا يُتقنه إلا من أوتيَ فراسته وخبر دهاليزه وأدرك معتركاته، فرجل السفارة الأول هو من يمثل وليّ الأمر بالبلد الذي هو فيه، يتعامل مع رعايا بلاده بما يناسبهم، وهذا ما كان مع صاحب السمو الملكيّ الأمير خالد بن بندر بن عبدالعزيز سفير خادم الحرمين الشريفين لدى المملكة المتّحدة، خلع قبعته الدبلوماسية، واعتمر عمامة بلاده أثناء الحديث مع أبنائه في النادي السعودي بمدينة مانشستر؛ فنِعمَ ما ورثه من آبائه وأجداده، أرباب السياسة والإمارة.