يعيش الرأي العام العالمي اليوم حالةً أقرب ما تكون للفوضى في تكوين المفاهيم والأفكار والتوجّهات وهي حالة (غير مسبوقة في التاريخ) صنعتها -بشكل خاص- قدرات الشبكات الاجتماعيّة، وتسندها وسائل الإعلام المفتوحة عبر الفضاء. والراصد للمشهد المعلوماتي/ الإعلامي الجماهيري (الشعبي/ الشعبوي) ربما لاحظ بعض ملامح هذه الفوضى بشكل أو بآخر، ويبدو أنّ هذا الوضع المتزايد حجمًا وتأثيرًا لم يُدرس بشكل موضوعي مناسب في دراسات الاتصال وعلوم الاجتماع والنفس والسياسيّة، ويمكن تمييز بعض ملامح هذه الآثار التي تعمّها الفوضى في بناء وتشكيل الرأي العام العالمي في الآتي: أولا: شدّة الاستقطاب الفكري والسياسي وبالتالي تفكُّك الخطاب العام (الجامع) حول القضايا الجوهريّة التي تمسّ حياة كثيرين في المجتمع الإنساني. ولعلّ هذا يفسّر كيف تنقسم المجتمعات إلى فرق متعارضة بشدّة، في قضايا لا تستحق هذه المتناقضات المتباينة، والأخطر من ذلك هو خلق تلك الحالة من العزل المعرفي وبناء الجدران الحاجزة للقواسم المشتركة التي هي الأهم في التعايش الإنساني، وتتعزّز هذه الحالة ضمن تأثيرات ما يُسمى بفقاعات التصفية وغرف الصدى (Filter Bubbles and Echo Chambers) في بنية شبكات التواصل الاجتماعيّة التي تدعم ما لدى المستخدم من قناعات وتحبسه في "فقاعات" أيديولوجيّة تحرمه من التعرّض لوجهات نظر متنوعة وتفقده القدرة على تكوين رؤية متوازنة في كثير من القضايا الاجتماعيّة أو السياسيّة بل قد يصل به الحال إلى معايشة فوضى تعريف الذات والعلاقة بالمجتمع. ثانيا: تأثير المعلومات المضلّلة وتآكل الثقة في المؤسسات، وهذا الوضع ينتجه الضخّ الهائل للمعلومات غير المقيّدة مع غياب أو ضعف المصادر (الموازية الرصينة)، وقد وجدت دراسة أجراها معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا أن الأخبار الكاذبة تنتشر على منصّة إكس (تويتر سابقا) أسرع بست مرات من المحتوى الواقعي. كما بيّنت دراسات أخرى أن 60 % من مستخدمي الشبكات الاجتماعيّة يشاركون الموضوعات دون قراءتها. وهذه الظاهرة أبرزت ظاهرة أخرى يمكن تسميتها بالانحياز التوكيدي (Confirmation Bias) وهو الترويج والدفاع عن أي فكرة بغض النظر عن مصداقيتها والميل إلى إظهار المعلومات وتفسيرها وتفضيلها واسترجاعها بطريقة تؤكد أو تدعم معتقدات الفرد (الخاطئة) مما يجعل الناس أكثر تقبُّلًا لترويج الأكاذيب والشائعات التي تدعم تحيزاتهم الفكريّة والسياسيّة. ثالثا: جني الأرباح من نموذج "جذب الانتباه"، وهذا انعكاس محزن لظاهرة في عالم أعمال الاقتصاد الرقمي تقول إن "المنصّات الرقميّة تكسب المزيد من المال مع المزيد من التفاعل الجماهيري (Attention Economy)، ولهذا تبني خوارزمياتها لتروّج للمحتوى المثير الجاذب بغض النظر عن صحّته أو تأثيراته، ومن أخطر الآثار لهذه الظاهرة تعزيز حدّة انقسام الناس إلى جماعات متعصّبة لروايات ومعلومات مختلفة عن الواقع. وتغذّي خوارزميات هذه المنصّات مفاصل جذب الانتباه من خلال وضع الطُعم للإثارة ومن ثم جلب التفاعل وجني الأموال. رابعا: الاستنزاف المعلوماتي/ المعرفي، ونتيجته تراجع القدرة العقليّة للمستهلك على معالجة المعلومات أو اتخاذ قرارات عقلانيّة بسبب التعرُّض المفرط للمحفزات المعلوماتيّة لكل فكرة. وبسبب هذه الضوضاء الرقميّة في بيئة مليئة بالبيانات المتناقضة يصبح المستهلك المعلوماتي تحت ضغط "الإجهاد العقلي". ومن المعلوم في دراسات السلوك البشري أن التعرض المستمر للمعلومات (الفوضويّة) يقلّل من مهارات التفكير النقدي في تكوين الآراء وبناء القرارات الرشيدة. * قال ومضى: (أنت) لم تكن معي حين انفضّ (الناس) من حولي، فلا تزاحمهم حين عادوا مع الزمان العائد..