تأثرت بعض الدراسات الاستشراقية بحركة "نقد الكتاب المقدّس"، في تعاملها مع الكتب المقدسة، من ضمنها "القرآن الكريم"، مسقطة ما وجدته من طرائق فحص الكتابين المقدسين "التوراة والإنجيل" على "القرآن الكريم"، من حيث الثبوت للتصديق والنفي للضد. دون نظر إلى خصوصية السياق، وحقيقة "القرآن"، وأهم ما يبرز في ذلك مرتبة "المكتوب" في كلا الثقافتين الإسلامية والغربيّة، فلم يكن المكتوب أصل الحضارة الإسلامية في العلوم الشرعيّة، وما دونها، فضلا عن أن يكون القرآن أصله "المصاحف". ومع ذلك لم يُفحص القرآن الكريم وفق شروط العلم الإسلامي، بل فحص وفق شروط الدارس الخارجي. ومن ذلك فحص "المخطوطات القرآنيّة"، وما ظهر من نظريات حول "المصحف الشريف"، ضمن حقل "الدراسات القرآنيّة"، وتوهم ظهور القرآن بعد انتشار الإسلام. وتأتي دراسة "فرانسوا ديروش" التي ترجمها د. حسام صبري، والمنشورة في مركز نهوض في طبعتها الثانية 2023م، والمأخوذة من النشرة الإنجليزية 2014 من Brill، بعنوان: "مصاحف الأمويين: نظرة تاريخية في المخطوطات القرآنيّة المبكرة"، لتؤكد من جديد أهمية "المتلوّ" وتقديمه على "المكتوب" -ولو إشارة دون تأكيد كما عند المسلمين-؛ ففي المقدمة بين سياق تاريخ دراسة مخطوطات المصاحف في الغرب، والتي يرى أنها مشكلة في تحديد تاريخ المخطوطات بدقّة، عند الاعتماد على "التحليل الكربوني"، وعدم كفايته، فيُحتاج إلى دخول الطرق الفيلولوجية والتاريخية لدراسة المخطوط. وهذا قاده للسؤال الذي غُيّبت قيمته لوقت طويل، وهو: هل القيمة الأهم عند المسلمين للمكتوب أم للمتلوّ؟ يقول: "إن ما يعنينا -وفق السردية الإسلامية التقليدية- هو النصّ المتلوّ". مما يعني أن الجدل حول تحديد أقدم مخطوط للقرآن عند المؤلف هو "لوضع حدّ للجدل الذي بدأته "المدرسة الفكرية المغالية في النقد والتشكيك"...". وهذا إرجاع متميّز من الباحث لأصول المجال الإسلامي المعتمدة، في أصل العلم المنقول، وهو النقل الشفهي، ثم الكتابة رافد يرفده، وما ارتبط بالكتابة من علوم الرسم. ولا يعدم قارئ الكتاب -حتى ولو كان تركيزه أكثر على الجانب المادي من المصاحف- أن يجد إشارات مهمّة لحادثة "جمع القرآن" في المصاحف، وهي حادثة في أصلها "نازلة" لا منطلق أصل حفظ القرآن، وقد تكررت هذه النازلة، وتعددت طرق الجمع الأولى بحسب كل نازلة، وما يُقتضى من عمل، ومن ثم ارتبط حفظ القرآن ب "الرسم"، لا أن الرسم أصله. ويرى المؤلف أن الرسم ركيزة، لكن ربما غاب عنه أن هذه الركيزة أيضاً تُعضد بإجازة القراءات إجازة متلوّة، ليصح للقارئ السند في كيف يتلو؟ وكيف يرسم جملة؟ مع اختلافات تفصيلية للرسم. يقول المؤلف: "ولقد كان تدوين القرآن عملاً في غاية الأهميّة ويكاد يُجمع التراث الإسلامي على إيراد البراهين نفسها التي اقتضت تدوين الوحي بصورة مكتوبة، وإن وقع اختلاف حول بعض النقاط. وعلى الرغم من الموقف المتأخر الذي أعطى الأولوية للقرآن المتلوّ في كلا الخبرين، خبر أبي بكر وخبر عثمان [رضي الله عنهما]، فإن المسألة واضحة؛ إذ النص المكتوب هو الركيزة الأساسية في حفظ الوحي. وإنّ علم القراءات الذي ظهر في وقت متأخر لَيُسلّم -وإن بنبرة خافتة- بأهمية النسخة المكتوبة من القرآن، فثمة شروط ثلاثة للقراءة الصحيحة، من بينها موافقة الرسم العثماني".