على رغم الدعوات المتكاثرة منذ زمن طويل بحاجة تاريخ تدوين النص القرآني إلى تحقيق نقدي، لم يتم بعد تلبية هذا الطموح. يعود هذا التأخر أساساً إلى عوائق تقنية تحول دون إيفاء النص القرآني بتمثيل كل تعقيداته وتطوراته التاريخية. ولحسن الحظ، فإن ورشة"بحث تطور كتابة وطباعة النص القرآني"المعقودة في برلين 7-9/11 قامت بتطبيق التقنيات الحاسوبية الحديثة والتي ستمكننا من تفادي كثير من تلك العوائق. ستضم هذه الورشة متخصصين في مجال المخطوطات القرآنية، علم الخط العربي Palaeography، فقه العربية Philology، وقاعدة المعلومات الحاسوبية، من أجل إعداد نموذج حاسوبي يعين على دراسة تاريخ النص القرآني. تهدف هذه المحاولة الحاسوبية إلى الكشف عن تاريخ كتابة النص القرآني أي التدوين والنشر كما هو محفوظ لنا في المخطوطات الحجازية الباقية، إضافةً إلى تطور تلك الكتابة حتى عهدنا الحاضر. وما دام البحث النقدي للنص القرآني غير متحقق، يبقى التعليق العلمي على النص غير المحقق علمياً هو ذاته مشكلاً. أجل، فمن بين الباحثين المتخصصين في الدراسات القرآنية ليس إلا قليل منهم من هو ملم بالحيثيات التاريخية لتدوين النص القرآني. ثم إن هؤلاء الباحثين المشتغلين بالقرآن يعتمدون أساساً على مصفوفتين two typeset editions: أحدها، نسخة فلوجل باحث الإسلاميات الألماني الذي توفي في 1870 الموسومةCorani textus arabicus طبعت المرة الأولى في 1834، والثالثة في 1881، وثانيها النسخة المصرية الملكية طبعت المرة الأولى في 1924، والثانية في 1952. معظم الباحثين اليوم يعتمدون على النسخة المصرية أو مشتقاتها ومن بين أهمها النسخة الملكية السعودية 1988 المكتوبة باليد على طريقة النسخة المصرية. علينا أن ننوه هنا بأن النسختين لا تمثلان النص كما هو محفوظ في المخطوطات القرآنية التي في متناول أيدي الباحثين وبالتالي يمكننا أن نتساء ل، هل أحدثت تلك النسختان انقطاعاً أو انزياحاً عن التقليد الكتابي العربي للنص القرآني؟ ثم ما الأثر الذي سببه الانتقال بل العدول عن التقليد التاريخي المعتمد على الكتابة الخطية كطريقة لإنتاج النسخ القرآنية، العدول عنه إلى طريقة الطباعة الميكانيكية الحديثة لإنتاج النصوص؟ حول هذه الأسئلة يدور محور هذه الورشة. وإذا ما قارنا بين نصوص المخطوطات القديمة ونصوص النسخ الحديثة لاحظنا تطوراً لافتاً مر به الخط العربي. هذه دلائل تشير إلى أن الانتقال من شكل من أشكال الكتابة إلى شكل آخر قد يؤثر في نقل نص المخطوطة ذاته transmission of the text، فتطور الخط ليس تطوراً شكلياً فنياً لا يؤثر في نقل النص كما قد يظن. إضافةً إلى هذا، ليس من شك في وجود علاقة وثيقة بين تطور الخط العربي وتنوع أوجه قراءة النص علم القراءات، إلا أنه لم يتم بعد أي دراسة تقابل تطور الخط وعلم القراءات بالمخطوطات ذاتها. يضاف إلى هذا عدم وجود أي دراسة تعنى بتطور الإملاء القرآني. يبقى القول ان المخطوطات لم تلق الاعتناء اللائق بها أيضاً. فمن بين أكثر المجموعات ثراءً، تلك التي بدأ بجمعها برجشترسر Gotthelf Bergstraesser في ميونخ في 1920. ولكن منذ وفاته ووفاة زميله أوتو برتزل Otto Pretzl، لم يعرف عن أحد لا في ألمانيا ولا خارجها أنه استكمل عمل المشروع الألماني في دراسة النص القرآني، باستثناء آرثر جفري Arthur Jeffery الأسترالي الذي أخذ على عاتقه دراسة المخطوطات إضافةً إلى المادة الغنية والمتفرقة في ثنايا كتب القراءات والنحو العربي حيث بقي جفري يعمل حتى نهاية الخمسينات من القرن الماضي. هدأ البحث بعد ذلك إلى أن اكتشفت في السبعينات مخطوطات قرآنية قديمة في اليمن قام بفحصها باحث الساميات الألماني ج. ر. بوين Puin من جامعة زاربروكنSaarbruecken . وتعتبر المخطوطات التي قام بنشر صور عنها Facsimile كلٌ من مؤسسة نوجا نوسيد الإيطالية Fondazione Noja-Noseda, Lesa, Italy والأستاذ رضوان من ساينت بترسبرغ، روسيا اسهامات مهمة نحو جمع المصادر المخطوطة للنص القرآني. تلبيةً لهذه الآمال في دراسة النص القرآني، تم تأسيس مشروع في آذار/ مارس 2004 في برلين على أيدي الأستاذ أندرو ربين Andrew Rippin من جامعة فكتوريا الكندية University of Victoria, Canada والأستاذة أنجلكا نويفرت Angelika Neuwirth من الجامعة الحرة في برلين Die Freie Universitaet والذي يهدف إلى وضع تحقيق علمي للنص القرآني يضم ما قد وصلنا من التراث المخطوط وعلم القراءات. في الطور الأول من المشروع سيتم عرض ومناقشة المخطوطات المتعلقة بسورة طه بغية معرفة مدى ملائمة التمثيل الإلكتروني للمخطوطات التاريخية. هدف آخر ترمي إليه الورشة هو مناقشة مدى ملاءمة تطبيق تكنولوجيا الحاسوب الحديثة في مجال تتم مقاربته عادةً بالأساليب الفيلولوجية المعروفة. تقدم أنظمة قاعدة المعلومات الحديثة حلولاً كفيلة بمعالجة بنى المعلومات المعقدة كالبنية التي يقدمها لنا تاريخ مخطوطات النص القرآني. حيث تقدم تكنولوجيا الحاسوب البديلَ عن التمثيل الساكن static السلبي للنص في شكل كتاب، وتحل مكانه تمثيلاً فعالاً ديناميكياً في شكل قاعدة للمعلومات نموذجية modular وعلاقاتيةrelational . من المرجو أن تمنح هذه التكنولوجيا الباحثين إمكاناً لبحث واسترجاع المادة القرآنية ومن ثم تنظيمها من أجل الدراسة والنشر. وكما قلنا فإن معظم الباحثين اليوم يعتمدون على طبعة القاهرة المطبوعة فى 1924 تحت رعاية الملك فؤاد الأول. ولا شك في أن هذه الطبعة أحدثت تقدماً هائلاً حيث كانت تنتج قبل إذٍ المصاحف بطريقة الطباعة على الحجر lithography لا طريقة الطباعة المصفوفةtype-set المتبعة اليوم. ونجم من جراء ذلك أن أصبحت طبعة القاهرة بمثابة إيقونة نصية icon يصعب تصور القرآن إلا من خلالها ليس فقط عند المسلمين بل عند الباحثين الغربيين أيضاً. ما نحتاجه هنا هو بحث علمي دقيق يتناول العلاقة بين هذه الطبعة والتقليد الخطي المحفوظ في المخطوطات، فقد أشار بعض الباحثين إلى بعض الإملاءات التي يمكن أن تكون قد ابتكرت لغرض الطباعة. ولتحقيق هذا الهدف ينبغي دراسة كل مرحلة من مراحل تطور الخط في سياقه التاريخي، آخذين في الاعتبار 1 البعد التزامني synchronic، أي التعرف على الوحدات الخطية في نظام كتابي ما، 2 البعد التعاقبي diachronic، أي يجب مقارنة تلك المراحل التاريخية لأنظمة الكتابة من أجل الكشف عن تنوعاتٍ مختلفة. يلزم عن هذا المنهج اعتبار كل مرحلة من مراحل تطور الكتابة العربية قبل كوفي، ما بعد كوفي، الطباعة المصفوفة، الطباعة الاكترونية أنظمةَ علاماتٍ متسقة تزامنياً synchronically coherent signal systems. وهذا المنهج يوافق المناهج المتبعة في مجال اللسانيات التاريخيةhistorical linguistics . ومع توافر المخطوطات القرآنية الغنية يبدو عجيباً كيف تنقطع الطبعة القاهرية في بعض الحالات عن ذلك الإرث. وبسبب الانتشار الواسع الذي قد حققته هذه الطبعة، فقد بدأت المخيلة المسلمة تنظر اليها وكأنها القرآن غير المخلوق الذي جادل له المتكلمون قروناً، فاختلط التصور الكلامي بالشكل الكتابي الذي هو وليد لحظته. ولا تقف الإشكالية هنا، بل ينجم عن إضفاء هذه الهالة على طبعة القاهرة إهمال التنوع الغني المودوع في المخطوطات وكتب القراءات. من هنا، تتضح أهمية نقد تلك الحالة التاريخية ahistorical التي تضفى عليها ومقابلتها بالتنوع المحفوظ في مصادره. تجمع هذه الورشة خبراء من بلاد مختلفة وتخصصات متعددة، من بينها علم الخط العربي، الدراسات القرآنية، وعلم المخطوطات. وهم نويفرت Neuwirth، ربين Rippin ، صالح Saleh، فتكم Witkam، غراف فون بوتمرGraf von Bothmer، فيديلي Fedeli، بوين Puin، رضوان Rezvan، نويا نوسيدا Noya-Noseda، بكاتشي Pakatchi ، دوتنDutton ، سيلينيSillini ، عمر حمدان Hamdan، ميلو Milo، برنشتيلBirnstiel ، لنجل Lingel، سمول Small، هارتفكHartwig ، وكاتبا هذه السطور ماركس Marx وديةDayeh . وفي الختام سيتم نشر ثمار هذا العمل ضمن سلسلة من الإصدارات العلمية تعنى بموضوع المخطوطات والقراءات القرآنية تسمى: سلسلة برجشترسر التذكيرية التخليدية: النص القرآني مخطوطةً وقراءةً Bergstraesser Memorial Series: The Quran in its manuscript and textual tradition . إن استخدام تقنيات الحاسوب الحديثة سيكون مفيداً للكشف عن أشكال الخطوط وتطورها. إذ إن تطبيق تلك التقنيات في الدراسات القرآنية، لا بل حتى في الدراسات الشرقية إجمالاً سيخبرنا عن مدى ملاءمة وجدوى البرامج الحاسوبية في معالجة التراث الأدبي العربي، ذلك التراث الذي ما يزال عصياً على الحوسبة. باحثان مقيمان في برلين، ألمانيا.