حين أكتب عن د. غازي القصيبي فإنني لا أحتاج أن أكتب في موعد ما كذكرى رحيله عن كوكبنا؛ لأنه الرجل الاستثناء الذي نحب أن نكتب عنه في كل حين، فأقواله التي تداعب آذاننا وتستثير مشاعرنا هي ناقوس يقرع في عالم الإدارة والشعر والرواية، ومواقفه الإنسانية الخالدة دروس وعبر. غازي القصيبي الإنسان الذي تحتار أن تنسبه للقصب في قلب نجد أو الأحساء في شرقي المملكة أو تلك المدن التي بقيت تحمل ملامحه وتحتفظ بذكرياته؛ فتفضل أن تقول غازي القصيبي لتنتسب الأشياء إليه لعمق فكره وعميق أثره ومنجزه الباقي يذكر به. هو المسافر بين مدن الكلمات والرحالة بين عواصم الشرق والغرب، الذي حمل مع حقائبه الوزارية والدبلوماسية حقيبة الشعر والأدب وميثاقاً إنسانياً كان كخارطة طريق لحياته وتعامله مع من حوّله. كتبت له ذات خريف، «سيدي الشاعر أود أن ألتقيك لأشرب فنجان قهوة معك للاتفاق حول لقاء عن الرواية» وما هي إلا أيام واتصل سكرتيره بي ليحدد موعداً تحضيرياً للحلقة في اليوم التالي، وكنت وصلت جدة للتو للالتحاق باثنينية الراحل عبدالمقصود خوجة التي تحتفل بسمو الأمير تركي الفيصل، فقمت بحجز آخر رحلة تنطلق من جدة للرياض لأكسب حضور جزء من الاثنينية ولأصل الرياض قبل فجر اليوم الذي سألتقي فيه عملاق الرواية والإدارة والشعر. ولأن منزلي وقتها في الخرج «السيح» فلم يكن بوسعي الذهاب إليه بعد منتصف الليل والعودة باكراً، فبحثت عن فندق يستقبل امرأة (بدون محرم) وانتظرت ساعات قليلة حتى الصباح للذهاب للقائه في وزارة العمل. لقائي بالأستاذ هزاع العاصمي قبل أيام حرضني على كتابة هذا المقال، ولو التقيت أحداً من أفراد العائلة لما ألمّ بالتفاصيل التي احتفظ بها رفيق دربه في العمل ومدير مكتبه (العاصمي) -أبو غازي-، الذي رافقه أيضاً في رحلته العلاجية إلى أميركا، وهو يحكي عن بعض تفاصيلها قلبت صفحات رواية القصيبي «رجل جاء وذهب» التي استشرف فيها وفاته وما قبلها، وكنت قلت لمعالي الروائي وقت لقائنا الأول: «كم من الألم معجون بين حروف هذه الرواية، ينتابني وجع في الروح كلما قرأتها أو نظرت لغلافها على رف المكتبة، وكانت دهشتي أكبر لأنه كتب الرواية مرة على لسان بطلها (يعقوب العريان) ومرة أخرى بعنوان مختلف «حكاية حب» على لسان روضة بطلة الرواية. كما شقة الحرية، يستوقفني المقطع الأخير فيها وذلك الفتى الأغر يودع القاهرة قبل أن تطير به الطائرة إلى بلاد ناطحات السحاب وبيئة لا تشبه بلاد الفرح وقاهرة ميدان التحرير وطيبة الشعب المصري و(لذاذة) أغانيه «يما الأمر عالباب»، وهو يختزل في أسطر معدودة البيئة القاهرية التي أمضى بها خمسة أعوام، وقد كتب تحذيراً مسبقاً لقرائه بعدم محاولة النبش في شخوص الرواية وإلصاقها بشخوص واقعية نافياً أن تكون سيرة ذاتية تاركاً الحقيقة في بطن الكاتب لترحل معه. غازي القصيبي الذي ظل هنا وإن غاب جسده فلم تبهت ذكراه أبداً، بقي الشاعر الذي نردد قصائده في كل حين، والإداري الذي نستنير بعباراته الخالدة لأنها استشراف للمستقبل وخارطة طريق لجيل الشباب الذي كان من أولوياته، لذلك هو الذي بقي حاضراً وإن غاب. ميسون أبو بكر