*فطرة سلفه المتنبي (محمد علي فرحات) تلك الهامة لا تُنسى غازي عبدالرحمن القصيبي بطوله الفارع وحضوره الآسر، لا الطاغي، رأيناه علامة في الوسط الديبلوماسي في بريطانيا. سفير المملكة العربية السعودية، لكنه في معظم الأحوال وزير إعلام العرب والمسلمين على شاشة التلفزيون، خصوصاً القناة الرابعة، قناة المثقفين. يحضر الى شبه فخّ ليدافع عما يصعب الدفاع عنه، صورة العرب المسلمين السلبية كما عممها متعصبون هامشيون يسهل عليهم تكفير الآخر والانكفاء عنه ونسبة سلوكهم الى الاسلام. بتفاؤله وثقافته الشرقية - الغربية كان القصيبي قادراً على إقناع النخبة البريطانية، ولكن، أنّى لرجل وحيد مثله أن يمسح أخطاء عشرات المتعصبين الذين تروج صورتهم السلبية في الإعلام البريطاني، لغاية في نفس يعقوب. سفير ومبدع في الشعر والرواية والمقالة. وفي جلسات الأصدقاء يألف المخاطبة «غازي» لا «الدكتور» ولا «سعادة السفير»، يحملنا على المساواة إذ نقف جميعاً أمام نار الإبداع ونجهد لتحويلها نوراً لا يحرق. ذلك الجهد يساوي بيننا أياً كانت فروق النجاح. معه تذكرنا حقيقة بديهية هي أن البلاد التي أتى منها حاملاً أنفاسها (السعودية) هي مهد العرب والإسلام، وفي نصوصه تلك الفطرة تذكرنا بفطرة سلفه المتنبي حين أنهى «وورك شوب» لغوياً في بادية السماوة. غازي القصيبي جدول كلام رقراق لا تعوقه حصوات الجمل الطويلة والضمائر المعقدة. شعره يذكّر برومنطيقيي ما بعد النهضة مع احساس خاص بالمجالسة كأنه يقرأ لمستمع واحد من أجل الإلفة. وفي نثره، خصوصاً الروائي، شفافية تجعل اللغة مرآة للأشياء ولأحوال النفوس. ولطالما أسرتني استطراداته الحية، خصوصاً في رواية «العصفورية»، تلك الجاحظية الحديثة تستحق مكانة مميزة في لغة الرواية العربية الحديثة. السفير المبدع، لكن القصيبي قبل ذلك وبعده، الإداري ذو الحركة الإيجابية، تشهد على ذلك بصماته في غير وزارة سعودية. لقد ترك فراغاً. *علامة الإحياء الشعري (جابر عصفور) غازي القصيبي هو واحد من أصحاب الشعر الصافي والموهبة الأدبية الأصيلة، وكان متعدد الاهتمامات الأدبية، إذ كتب الرواية والشعر وكان فيهما نمطاً فريداً بذاته، وظل يجمع بين الحرص على التقاليد الرصينة والحداثة. هو علامة على الإحياء الشعري المحدث والكتابة الروائية الرصينة. وستظل روايته «شقة الحرية» فريدة في بابها من حيث هي رواية سيرة ذاتية تتحدث عن شبابه وترصد التيارات القومية التي تأثر بها في مختلف أرجاء الوطن العربي وصعود القومية العربية وسط تيارات متصارعة. رحم الله غازي القصيبي الذي سيظل قريباً إلى قرائه عبر شعره وأعماله الأدبية التي تعد أثراً باقياً يدل على حضوره. *ضميرنا الثقافي (عبد الله الغذامي) هو رمزنا الذي يسبقنا إلى كل بقعة من بقاع العالم، فما يذهب أحد منا إلى مكان إلا ويجد غازي قد سبقه إليه فيزين هاماتنا ويعمق قيمتنا في وجوه الآخرين. هو غازي الذي كان يعيد صياغة أحاسيس كل مواطن ومواطنة حتى كان كل فرد منا يشعر أن غازي، هو حقه الخاص وأنه غازيه هو أو هي. حتى أن الناس كبار السن، كانوا يتحدثون عن غازي (باسمه المجرد لأنهم يشعرون ألا فاصل بينهم وبينه)، لأنه لم يكن وزيراً ولم يكن وجيهاً ولم يكن من عائلة عالية المقام، وإن كان يبدو كذلك، ولكنه كان رمزاً وجدانياً للجميع مثلما هو رمز ثقافي للمثقفين وسياسي للسياسيين، وإداري للإداريين ورجل عمل وأعمال لمن يعملون. تنوعت مواهبه وتعددت وتبعاً لهذا تنوعت محبته وتعددت، حتى مع خصومه وكنا نعرف الكتب الخمسة عن المشايخ الخمسة، الذين صارت بينه وبينهم حروب ضروس، وكان قوياً وواضحاً في قول رأيه وفي مواجهة من واجهوه وهو بهذا لم يعمق الخصوم ولكنه فتح أبواباً للفهم ومعرفة الرأي والرأي الآخر، إلى حد تحول معه خصومه إلى أصدقاء، خذ مثلا الشيخ سلمان العودة والشيخ عائض القرني اللذين صارا يتبادلان الأشعار والقصائد في المحبة معه بعد حرب في الأشرطة والكتب. هو غازي كل واحد منا، فرداً فرداً، وهو لهذا غازي الوطن وغازي ضميرنا الثقافي، هو الذي ملأ حياته بالعمل الدؤوب الذي لم يكل قط، وكنا نغبطه ونتعجب منه على قدراته الهائلة في سيطرته على الوقت، وعدم السماح للمشاغل الكبرى في أن تزاحم مهاراته التأليفية والإبداعية، أو تحول بينه وبين التواصل مع الناس، وكلنا نعرف أنه يتابع الخطاب الإعلامي بكل مفرداته ويتواصل مع الإعلاميين في شكل يومي ومباشر ومستمر. *رائد "شقة الحرية" (طالب الرفاعي) من أين يمكنني أن أمسك بخيط الكتابة عن غازي القصيبي، وهو الإنسان والشاعر والروائي والمسؤول الرفيع، وقبل هذا وذاك الصديق المخلص، الذي يخجلك بتواضعه ووصله ونبل أخلاقه؟ وكيف لي أن أكتب عن غازي القصيبي في لحظة انتقاله إلى البارئ الأعلى؟ ولكن، هي الدنيا لا تعبأ بشيء سوء سيرها في رحلتها الأبدية. أعلم تماماً، أن اللحظة لا تتسع للوقوف عند أعمال وسيرة غازي القصيبي، ولكني سألمح إلى روايته الأهم «شقة الحرية»، وهي الأهم بنظري لأنها، تشكل رواية فتح وسبق على ما جاء بعدها. فهي رواية فتح بمعنى جرأة المؤلف المسؤول على ارتياد عوالم الكتابة الروائية من جهة، وعلى الخوض في البوح المحذور من جهة ثانية، وهي في نهاية المطاف رواية تأريخية، تؤرخ روائياً لأبناء الخليج في رحلتهم العربية، وتعلقهم بالشعارات العربية، في مرحلة من أهم مراحل الأمة العربية في تاريخها الحديث. وهي رواية تقدم صورة ناطقة لحياة أبناء الخليج في انتقالهم من مجتمعاتهم إلى مجتمع مصر أم الدنيا، أيام كانت انتقال الخليجي من بلده إلى القاهرة، بمنزلة انتقاله إلى عالم آخر، جديد عليه، ومليء بحياة أقرب إلى الحلم. (شقة الحرية) كانت الرواية السعودية الفتح، حين قالت بإمكانية أن تكون الذكريات الشخصية الخاصة، التي تقارب الوثائقية، مادة خصبة للرواية. وهي بذلك حركت وجرّأت أجيال روائية شابة من خلفها، كي تقول كلمتها الروائية، في تجربتها الإنسانية الخاصة، متجاوزة ومخترقة كل المحظورات، في مجتمع ما زال يمارس حياته تحت شعار «استر على ما واجهت». إن جرأة مسؤول رفيع في الدولة، على الكتابة عن ذكرياته وأفكاره عبر شخصيات الرواية، كانت بمثابة القول بعجز المنصب الحكومي عن إسكات الكاتب حين يريد قول كلمته، ولهذا شكّلت (شقة الحرية) الشرارة الخفية التي حركت كتابات، ما زالت تتوالى، ويقف القارئ مشدوهاً أمام، حبكتها الروائية، وجرأتها الصادمة. نعم، لقد حرك غازي القصيبي بروايته «شقة الحرية» سواكن كثيرة كانت كامنة في المجتمع السعودي. إن الحديث عن غازي القصيبي الروائي، لا يمكن أن يمرَّ من دون التعرض إلى حماسته الكبيرة للأصوات الروائية الشابة، وتبنيه لبعضها، وبما يؤكد على أن الفن الروائي، من دون غيره من الأجناس الأدبية، كان متمكناً من عشق غازي القصيبي. يمثل غازي القصيبي، نموذجاً نادراً لشخصية متعددة المواهب، تنقلت في شتى بقاع الأرض في مناصب كبيرة، ولكنه على رغم كل ذلك ظل غازي الإنسان، عاشق الفن والأدب. لك الرحمة الواسعة أيها الصديق الوفي. *رجل التجارب (اسماعيل سراج الدين) رحل عن دنيانا، إلا أنه لم ولن يرحل عن ذاكرتنا، إنه الأكاديمي والشاعر والأديب والديبلوماسي والوزير والإنسان غازي القصيبي الذي ننعى وفاته ببالغ الحزن والأسى. عرفته قويّ الشكيمة، طويل الباع، لا يحيد عن هدفه، واضح الحجة، منطقي التفكير. مر الرجل على مدار حياته بالكثير من التجارب الحياتية التي لم تزده إلا شجاعة وثباتاً، إذ أحدث معظم مؤلفاته الأدبية ضجة كبرى عند طبعها، ومُنع كثير منها من التداول في بلده، وهاجمه ضيقو التفكير والمتسلطون الذين نصبوا أنفسهم قضاة على الفكر والإبداع. تميز الراحل في المواقع كافة التي تولاها، تعاونّا سوياً حينما كان وزيراً للصناعة من خلال عملي في البنك الدولي فكانت ثمرة هذا التعاون الكثير من المشاريع التنموية، كما أنه ذو شخصية متعددة المواهب، وهو ما يظهر جلياً في تنوع المواقع التي شغلها. كانت بيننا منافسة على منصب مدير ال «يونيسكو» على رغم كونها معركة انتخابية إلا أنها لم تمس صداقتنا الوطيدة بل تقابلنا بعدها في لندن في جلسة مطولة كانت صريحة إلى أبعد حد. أكدت هذه الجلسة مدى ما يجمعنا سوياً من الحرص على الثقافة المعاصرة الحيوية التي تعطي العرب الكثير. إنني إذ أنعى هذا الرجل المستنير، أؤكد أن إرثه سيظل باقياً في وجدان هذه الأمة وعقلها. *المتفوق على الألم (ياسين رفاعية) لم يواجه أحد الموت بشجاعة كما واجهه غازي عبدالرحمن القصيبي، ذلك السرطان في الأمعاء، كأنه مجرد صداع، فإيمان القصيبي بالله جعله يسخر من الموت الذي هو تحصيل حاصل لكل البشر... وهو يعاني على سرير المرض كان شغفه بالإبداع يتفوق فيه على الألم، فكتب قصته الطويلة «ألزهايمر» ما بين حقنة وأخرى أتجاوب مرضه معها أم لا؟ وفي هذا الوقت صدر قرار عن وزارة الإعلام السعودية بتوقيع وزيرها الشاعر عبدالعزيز خوجة برفع المنع عن روايات الراحل التي كانت ممنوعة من التداول في المملكة، كأنها هدية والقصيبي على الرمق الأخير. في «ألزهايمر» التي لم يرها القصيبي مطبوعة والتي ستصدر بعد أيام في بيروت عن دار بيسان، يتحدث فيها عن الموت: الموت البطيء «موات كل لحظة... بل هو أسوأ من الموت». كتب لي القصيبي بعد وفاة أمل جراح معزياً ببيت من الشعر للإمام الشافعي يقول فيه: «فلا المعزّي بباقٍ بعد صاحبه / ولا المُعزّى... وإن عاش إلى حين» فكأنه يقول ويتوقع، وكما نقول جميعاً ونتوقع «وإن عاش إلى حين» أو في القول المأثور لعمر بن الخطاب: «الموت باب، كلٌّ منا عابره» فهم السابقون ونحن اللاحقون. في: «ألزهايمر» يقول القصيبي: «ما بين فقدان الذاكرة وبين إصرارها على التذكر فالمرء من دونها إنسان ميت وإن كان حياً بين الأحياء» هذه الرواية المختزلة في سبعين صفحة، فاجعة قاسية، كتبها في اللحظة الساخنة من حياة القصيبي، ما يعني ان الراحل الكبير أراد الإمساك بالحياة ما وسعه الى ذلك، فالحياة هي الأجمل من الموت، خصوصاً الموت البطيء الذي يأكل ذكريات المبتلى بألزهايمر كأنه يموت ولا يموت... ويسأل في هذه الرواية، التي ستكون علامة فارقة في أعماله: «سبحان الله: هل للذكريات حياة؟ هل لها روح؟ هل لها عقل؟ هل تشعر أنها، بعد حين لن تجد ملجأ. هل هذه الذكريات كالأرواح المنكودة التي غادرت أجسادها ولم تستطع التحرر من سجن الأرض فأصبحت أرواحاً ضائعة لا يؤويها أحد؟». عندما انتقل القصيبي من البحرين الى لندن سفيراً للمملكة فوق العادة (خضّ) المدينة الكبيرة من عاليها الى سافلها... فلم يجلس مثل بقية السفراء العرب وراء مكتبه يوقّع هذه الأوراق أو تلك، بل أشعل المدينة بالثقافة العربية، وجعل من مبنى الإعلام العربي السعودي في لندن خلية ثقافية، من محاضرات وأمسيات شعرية وندوات ومعارض وفنون، بل شجع على إقامة معارض للفنانين العرب وكان أول من يشتري لوحاتهم. إضافة الى ذلك قارع الصهيونية في صحافتها حتى ضجّت منه إسرائيل وكتبت الى وزارة الخارجية البريطانية الاحتجاج تلو الاحتجاج على تصريحات السفير وكتاباته وقصائده. عشر سنوات من النشاط. لم يسبق لأي سفير عربي آخر أن قام بمثله، حتى شبّهه أحد الكتّاب بسفير الدول العربية كلها. كان صديقي رحمه الله، بل صديق العائلة، زارنا في منزلنا بلندن مراراً، وقدم لأمل لوحة من الصدف المقدسي. اشتراها من معرض للفنون الفلسطينية الحرفية، وهي عبارة عن آية الكرسي في سورة البقرة في القرآن الكريم، وهي لوحة طولها متر وعرضها نصف متر. فكانت أجمل هدية لنا على الإطلاق. كتبت له قبل نحو شهر رسالة أطمئن عليه فيها، فرد برسالة طيبة ورائعة يطلب مني ان «أدير بالي على صحتي» وأنه حالياً في حالة استقرار مع المرض... لم يتخلَّ عن واجباته تجاه أصدقائه، حتى وهو في ذروة هذه المحنة، فقد كان ذروة بالوفاء لأصحابه ومبادئه وقيمه العليا. من الصعب جداً ان نلتقي برجل من هذا النوع، رجل مميز ومبدع وكبير، وكان من أنقى الوجوه الثقافية قدّم لبلده صورة عن الإشعاع الحضاري العربي العظيم. رحم الله الرجل. *وداعاً أيها الفارس (أحمد الصياد) كثيرة هي الأعمال الإبداعية المتنوعة التي أمتعنا بها الدكتور غازي عبدالرحمن القصيبي، وكثيرة هي المواقف السياسية المتميزة التي اتخذها، متجاوزاً التزامات الأنظمة وحذلقة الحكومات. كل هذه الأعمال والمواقف لا بد وأن يتطرق اليها بعمق ومعرفة كل من عرف القصيبي وتابع أعماله وإبداعاته من رجالات الفكر والسياسة. اكتفي في هذه الأسطر العاجلة بذكريات من لقائي الأول ثم الأخير بالدكتور غازي القصيبي. فقد كان لقاؤنا الأول عندما ترشح لمنصب مدير عام ال «يونيسكو» عام 1999. فقد علم أن اليمن كان قد أعلن ترشيحي لهذا المنصب الدولي بموافقة جامعة الدول العربية. ولهذا بادر شخصياً بالاجتماع بي في باريس، وبلباقة الديبلوماسي وبلاغة الشاعر وبراعة المثقف أقنعني بدعم ترشيحه، قبل أن تتمكن المملكة من إقناع اليمن بذلك. وقد أقدمت على ذلك حباً وتقديراً لفارس الكلمة وصاحب المواقف، الرجل الذي لا يمكن إلا التسليم بحججه وتقدير مواقفه، واحترام مثله وأخلاقه، والتأثر بتواضع شخصه. كل ذلك على الرغم من ادراكي أن هناك عوامل موضوعية، ليس لها دخل بمواقف الشاعر والمثقف والديبلوسي، تقف حائلة دون وصوله لذلك المنصب رغم الوعود الرسمية، وهذا ما أوضحه الكاتب في روايته الخاصة بهذه التجربة اليونيسكوية التي سماها «دنيسكو». وأتذكر أن نقاشنا عن ال «يونيسكو» لم يستمر سوى دقائق معدودة، أما بقية النقاش فقد تناول قضية الحركة القرمطية في العراق والبحرين ثم اليمن. وأعتقد جازماً أن القصيبي قد أثار هذه المسألة لعلمه أنني متأثر بعض الشيء بأفكار هذه الحركة. غير أن النقاش أوضح أن الدكتور قرمطي حتى العظم ولهذا أجادني شرحه عن الواقع التاريخي لنشوء الحركة القرمطية وبعدها الاجتماعي والسياسي. أما لقائي الأخير مع فقيدنا فقد كان أيضاً في ال «يونسكو» قبل شهر، حول أمسيته الشعرية الرائعة وسرده المتميز «لسميم» قبل أن ننتقل الى منزل السفير والكاتب السعودي زياد الدريس. وهناك كانت ال «يونيسكو» حاضرة، وترشيح الصديق فاروق حسني موضوع النقاش. وقد شعرت في تلك الليلة الرائعة وعلى الرغم من دعم القصيبي للأستاذ فاروق حسني الا أن تجربته الماضية لا زالت ماثلة أمامه ولهذا قال كلمته «لا تثقوا بوعود الدول ولو كتبت». *المثقف الرحب (محمد سلماوي) غازي القصيبي مثقف عربي كبير تتخطى أهميته محيط الأدب والشعر إلى الثقافة الرحبة. كنت أعرفه معرفة شخصية وأحترمه احتراماً كبيراً؛ لأنه أضاف مسحة تنويرية واضحة على وجه الثقافة العربية بخاصة في ما يتعلق بالسعودية، فكان رمزاً للتنوير والانفتاح على الثقافات العالمية من موقعه المتجذر في الأدب والثقافة العربية. كان ذلك يجعله عرضة لهجوم من جانب العقول المنغلقة في الوطن العربي وخارجه؛ لأن من يقف موقف الحق، عادة ما، يتحالف عليه أصحاب النفوس الضيقة والرؤى الملتوية. عانى القصيبي هجوم تيارات تريد الانحراف بالدين الإسلامي إلى ما هو ليس منه، وعانى كذلك من المتعصبين ضد الثقافة العربية خلال ترشحه لمنصب مدير عام ال «يونيسكو». سيظل يذكر للقصيبي محاولته الفوز بهذا المنصب الرفيع رغم عدم تأكده من نجاحها، وسنظل نذكر له مواقفه المتقدمة جداً في مجال الثقافة والحياة العامة وإنجازه الأدبي والشعري المتميز. *التجربة المختزلة (صلاح فضل) يمثل غازي القصيبي واحداً من طليعة المثقفين العرب الذين اختزلوا تجربة التحول الفكري والايديولوجي والثقافي في أعمالهم الابداعية خلال نصف قرن، ولم يكن موقفه في هذا المعترك الثقافي والفكري موقف المتفرج بل كان المشارك النشط، وتجسدت بداياته طبقاً لإيقاع الثقافة في العقود الثلاثة الاخيرة من القرن العشرين في عطائه الشعري أولاً، حيث مثل أحد الأصوات الصافية الغنائية البديعة التي عبرت عن الوجدان العربي والإنساني بقصائد رائعة توفرت على الغزل وتتبعت في نسيجها وصورها وتجربتها الكلية رؤية تتواصل إلى حد كبير مع أشهر مدرسة غزلية ازدهرت في النصف الثاني من القرن العشرين وبلغت ذروتها عطاء في نزار قباني. وفرت له تجربته الدراسية الأولى في مصر ومقامه الطويل بعد ذلك في البحرين فرصة لاستخلاص هذه الرؤية الشعرية وتقديمها بنبرة غنائية صحيحة استطاعت ان تقدم إنجازاً شعرياً حقيقياً في الجزيرة العربية، وعندما احتدمت عواصف السياسة منذ مطلع التسعينات في حربي الخليج الأولى والثانية شارك بعنفوان لا نظير له شعرياً بهذه القصائد منحازاً لارتباطه الملتزم بسياسة بلاده ومعبراً عن ولاء حقيقي لنظام الحكم فيها لكنه عندما بدأ يمارس تجربته الروائية محدداً بذلك مؤشرات التحول لدى كثير من المبدعين العرب من الشعر إلى الرواية، قدم في «شقة الحرية» نموذجاً أيديولوجياً عاكساً رؤيته ذات الطابع الرسمي التي اشتملت على خطين متجاورين: الخط الاجتماعي الذي قدم فيه القاهرة في العهد الناصري باعتبارها ميداناً مفتوحاً يمارس فيه الشباب العرب غواياتهم العاطفية ومغامراتهم الجنسية ويرتفع سقف الحرية لديهم إلى أقصى درجة ممكنة تخالف بالضرورة ما كانت عليه عواصم الخليج في الفترة ذاتها من محافظة متزمتة وتقييد للحريات الشخصية والاجتماعية. الى جانب آخر بحسب رؤيته للصراع الأيديولوجي بين ثلاث تيارات: الماركسي والقومي العربي والتيار الملكي الذي يحافظ على ولائه لنظمه السياسية، محاولاً أن يبرز إفلاس التيارين الأولين والصدقية التاريخية للتيار الثالث الذي كان ينحاز اليه عبر موقعه في السلطة وبتمثيله لها. والطريف أن أعماله الروائية كانت تدافع في صميمها عن سياسات تمنعها على الحدود وترى فيها عدواناً عليها بينما هي أكبر تكريس ودعم لها. استمر القصيبي في مناصبه الوزارية والديبلوماسية التي أكلت كثيراً من طاقته الإبداعية وحرمت قراءه من نتاجه في السنوات الاخيرة وإن ظل يمارس الشعر عشقه الأول ويكتب الروايات مستنسخة الثاني حتى عهد قريب. أعتقد عندما يُكتب تاريخ الأدب الحديث على المستوى العربي ومستوى الجزيرة والخليج فسوف يفرد مساحة كبيرة لإبداع غازي القصيبي الذي اتسم بالتضحية والشجاعة والطليعية في زمنه. *وحيد وواحد (يحيى امقاسم) حين تنظر إلى الخسارات المقبلة وتجد أنّها لا تعنيك ولن تقدم على المستوى الشخصي أي منعطف جديد، أو حتى ملمس يشهد لك بتسجيل تجربة ما، فذلك مصابك الفريد والخاطف، هو المؤلم بحق. هذا ما أفزعني في الصميم حينما وصلني النبأ بمصابنا الجلل في فقيد الوطن والحبر غازي القصيبي. رجل يرحل في السبعين ويأخذ من المستقبل سبعين عاماً انتظاراً لولادة شخص عال مجدداً من يدري ، ذلك أحد أسرار رجلنا الفارع، فحينما يترجل مثله تحديداً إلى الموت يكون حتماً قد كرّس حضوراً عظيماً في المشهد واختار مكانه الخاص الذي لن يُجتزأ من مساحته أي جزء مهما استطالت المحاولات، فهو سيد الأثر البالغ بأصالة الكبار في رقبة التاريخ، فلا تجربة شبيهة يُشار إليها ولا شخص نرجو فيه تلك السمات. إنّه وحيد وواحد في سدّة الزمن الذي قضاه بنبض المواطن فيه، بروح الكاتب، زفير الموظف الكبير، فلا يهن ظله عن سعير المواقف والحروب، ولا يحبس يده عن شراك قد تلمّ بنا. *الكاتب الحر (ماهر الكيالي) رحم الله أبا سهيل فهو كان سيد الرجال. عرفته منذ ما يزيد عن عشرين سنة والتقيت بالفقيد الكبير في مبنى السفارة السعودية في لندن في اوائل التسعينات، وكانت ذكرى اليوم الوطني للمملكة، وعلى رغم مشاغله الكثيرة في ذلك اليوم فقد أعطاني من وقته الكثير. ثم التقينا قبل سنوات في منزله في البحرين وسلمني مخطوطة كتابه «سعادة السفير» ودار الحديث بيننا عن هموم النشر والكتاب العربي وكان دوماً يسألني عن الراحل عبد الرحمن منيف وعن الكتاب السعوديين الذين انشر لهم. في لقائي الأخير معه، في مكتبه في وزارة العمل في الرياض، اصطحبت ولدي عبد الوهاب وسلمني مخطوط كتابه «كي لا تكون فتنة». نشرت له 20 كتاباً، حادثته هاتفياً قبل شهر وكان يمضي فترة نقاهة في مملكة البحرين لأطمئنه بأن كتابه الأخير «الوزير المرافق» الذي خص به المؤسسة العربية للدراسات والنشر هو قيد الطبع وطلب مني الاهتمام بمراجعته والحرص على صدوره دون أخطاء مطبعية وهو الحريص على الدوام بمراجعة كتبه بنفسه وتدقيقها قبل النشر. كان القصيبي حراً مستقلاً في آرائه وكان يرفض، وهو الوزير المتنفذ، أن يتدخل مع السلطات الرقابية في فسح كتبه إلى أن قام وزير الاعلام الحالي عبدالعزيز خوجة بالسماح لجميع مؤلفاته بدخول السعودية، ويقيني لولا هذا الاعتراف المتأخر بفضله وبأهمية فكره في بلده لمات والحسرة تملأ قلبه. رحمك الله با أبا سهيل ، فقد رحلت في هذا الشهر الفضيل وعدت إلى ربك راضياً مرضياً. *شمس نادرة (فوزية أبو خالد) اليوم بغياب غازي القصيبي غابت شمس من الشموس النادرة، التي لم يخجلها بريق السلطة عن مشاغبة الظلام، بجرأة وبأدوات مبتكرة أو ماكرة، مرحة حيناً، وجادة أو ساخرة أحياناً. فالمهم في كل حالات غازي وتحولات تاريخه الخاطف الأخاذ عدم الاستسلام، هكذا كانت شمس غازي، وهكذا ستبقى للأجيال، وهو وإن رحل فسيبقى وهج شجاعته في الانحياز للحق والجمال وموهبته الإبداعية والإدارية الفذة على جرح الظلام بماء الحبر.