هل يتساوى جميع البشر في قُدُراتهم العقليَّة والاستيعابيَّة والمشاعِريَّة دون استثناء؟ أم أنَّ ثمَّة تفاوُتاً تفرضهُ العوامِل الوراثيَّة والخواص البيولوجيَّة والظروف الأُسريَّة والمُجتمعيَّة والعُمريَّة والبيئيَّة ما قد يؤثر على الاستقبال المَعرفي بين فردٍ وآخَر؟ ظروف التفاوُت بين الأفراد في استقبال المعلومات من أهم عوامِل الحاجة للتدرُّج في الصفوف المدرسيَّة، إذ لا يُمكن لطفلٍ لم يُصافح عقلهُ حروف الأبجديَّة والأرقام البسيطة أن يجد نفسهُ فجأة أمام منهاج الصف السادس الابتدائي -فضلاً عن المتوسط والثانوي- دون اجتياز الصف الأوّل الابتدائي وما يليه، مُراعاة التدرُّج في تقديم المعلومات أمرٌ لا بُد منه مُراعاةً لمُستوى الوعي والاستيعاب خِلال تلكَ المرحلة. وباعتبار وسائط الإعلام مِنصَّاتٍ لا يُمكن إغفال دورها في التأثير فقد كانت تلكَ الوسائط خلال زمن انفراد الإعلام التقليدي بهذا الدور على السَّاحة حريصةً على انتقاء المادَّة الموجهة للمُتلقين بعِناية فائقة، ثم بدأ عصر المواقع الإلكترونيَّة التي حافظَت على حدٍ مقبولٍ من الرصانة في رسائلها الموجّهة للجمهور، إلى أن غدا الأمرُ خارجًا عن نِطاق الدّقة المأمولة مع ثورة وسائط التواصُل الحديثة، حيث صار بوسع كُل إنسان إطلاق المعلومات التي يظنُّ أنها صحيحة أو يزعم صحّتها لسببٍ ما لتنتشر حول العالم خِلال دقائق. كان الفيلسوف اليوناني "أرسطو" يرى أن مثل هذا السلوك المؤثر في عقول البشَر يجب أن يكون حقًا خالصًا لفئة "الناس الممتازين"، الحُكماء العارفين، نُخبة النُّخبة، لأن لديهم مخزونًا من العلم الذي يؤهلهم لقول ما يستحق الإنصات، ولأنهم يعرفون ما يجدر بهم قوله ولمن يُقال وفي أي توقيت، وهو ما لا يتفق مع حالة الفوضى والعشوائيَّة التي اكتسحَت العالم الافتراضي بعد أن صار بإمكان كُل شخص تصوير نفسه وتسجيل كلماته ثم إطلاقها على الفور إلى هُنا وهُناكَ دون تفكير! ولأن مُشكلة العالم هي أن "الجُهلاء واثقون بأنفسهم أشد الثقة دائمًا والحُكماء تملؤهم الشكوك" كما يقول الفيلسوف برتراند راسل: يتم إغراق عالمنا يوميًا بكمٍ هائلٍ مما يُمكن أن يُطلق عليه مُسمَّى "نِفايات الكلام"، فلا هو مُفيد، ولا هو جديد، ويستهلك الوقت دونما عائد، وفوق هذا لا يُراعي تفاوُت القدرات الاستيعابيَّة بين المُستمعين، ما قد يؤدي إلى تلقيهم الرسالة بصورة غير صحيحة ربَّما تُشكل خطرًا على حياتهم أو صحتهم عند مُحاولتهم تطبيق ما سمعوه من شخصٍ غير مُتخصص. امتلاك الإنسان هاتفاً ذكياً يصوّر به نفسه وهو يقول شيئًا لا يعني أنه يمتلك محتوى يستحق النشر بين الناس، ومن الحكمة أن يتمسَّك الإنسانُ بموعظة الحديث الشريف: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخِر فليقُل خيرًا أو ليصمُت"، وليتذكَّر دائمًا أن "من حُسنِ إسلام المرء تركُهُ ما لا يعنيه".