رحل فيلسوف الأندلس قبل ان ينجز مشروعه الفقهي. وأدى عدم انجازه الى ايجاد ثغرة كبيرة في منهجه العام جعلت بعض الباحثين ينسب الى النقص المذكور السبب المباشر الذي ساهم في غياب قاضي قرطبة عن ساحة التأثير في حياة الناس وتراجع دوره كفيلسوف وفقيه في المنظومة المعرفية العربية والاسلامية. الى عدم انجازه مشروعه الفقهي، لعب موقفه من "العلم العملي" دوره في فتح ثغرة أخرى في منظومته الفكرية، اذ مال قاضي قرطبة الى "العلم النظري" ورأى ان الشرائع تكفلت في تغطية الجانب العملي في حياة الناس. فالقاضي كان من تيار الأتباع في المجال العملي لذلك ركز مشروعه الفكري في بناء منظومة معرفية نظرية أقرب الى التأملات الفلسفية منها الى الجوانب الحياتية في معاملات البشر ومعيشتهم. وساهم غياب "العلم العملي" في مشروعه الفكري الى غياب مشروعه بالكامل عن ساحة السجال وتقدم مكانه مشروع الامام الغزالي، وغيره من فلاسفة الفقه، على حساب المنظومات المعرفية لفقهاء الفلسفة. لماذا أهمل ابن رشد الجانب العملي في مشروعه الفلسفي واقتصرت جهوده على بلورة منهجه في الجانب النظري؟ أجاب عن هذه النقطة الباحث المغربي محمد المصباحي في دراسته عن "منزلة العقل العملي في فلسفة ابن رشد" فذكر ان فيلسوف الأندلس كان يفضل "العقل النظري" لأنه "يفحص الموجودات لاستجلاء طبيعتها والاستدلال بها على خالقها" بينما نظر الى "العقل العملي" نظرة استصغار "لأنه لا يقوم سوى بترويض الشهوات والأهواء والنزوات واقامة الصنائع والمؤسسات الأسرية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية". وبسبب الموقف "الاستعلائي" المذكور، عزل ابن رشد مشروعه عن هموم العامة وحصره في قضايا نظرية تهم الخاصة. وهو في هذا الجانب يختلف عن الامام الغزالي الذي قسم بدوره العقل الى نظري وعملي لكنه لم يهمل الجانب العملي في مشروعه. فالعقل عند الغزالي مركب من عقلين وهناك صلة بين "النظر" و"العمل" لذلك خاطب الخاصة العلماء والفلاسفة والعامة الجمهور في وقت واحد وساهم مشروعه الاحيائي في اطلاق دورة نقاش ألهمت الخاصة وألهبت العامة ودفعت الفقه خطوات نظرية وعملية الى الأمام. فالمسألة اذن ليست "مؤامرة" قامت بها السلطات المحلية ضد فيلسوف الأندلس منعت خلالها كتبه، بل هي اصلاً مسألة تتعلق بمشروعه الذي نهض على ازدواجية تفصل بين العقلين وتقسم الوظائف الفكرية بين نظرية الحكمة وعملية الشريعة. وانطلاقاً من التقسيم الوظائفي للعقل أهمل الجانب العملي المتعلق بتدبير الناس لشؤونهم الحياتية الصنائع والخلقية الفضائل وابتغاء الناس السعادة الكاملة، وتركز اهتمامه على الجانب النظري الذي رأى فيه المجال الوحيد للتأمل الفلسفي ولم يترك فرصة الا وأكد فيها على أسبقية العقل النظري على العقل العملي. فابن رشد قال باختلاف الوظائف من الناحيتين العملية والنظرية لأن مهمة العقل العملي البحث في الخير والشر بينما مهمة العقل النظري البحث في الحق والباطل. وبالتالي فإن غاية العقل العملي، كما يذكر المصباحي، هي ضمان الوجود الضروري للانسان بينما لا يكفل العقل النظري سوى الوجود الأفضل. ومعنى الوجود الضروري عنده هو الوجود البشري المحسوس القاصد للأعمال بينما تقتصر مهمة الوجود الأفضل على الوجود غير المحسوس. وبسبب اختلاف غايات العقلين اختلف الخيال بين الخاصة والعامة واختلفت بينهما مراتب المعقولات. وظن فيلسوف الأندلس بأن المعقولات العملية هي محسوسات قائمة على موجودات كائنة وفاسدة بينما المعقولات النظرية مجردة و"تمتاز بكونها ثابتة وأزلية". فالجمهور عنده لا يملك غير العقل العملي، والتفاوت بين العامة هو تفاوت نسبي في الصلة بالموجودات الحسية فذهب للتأكيد على "ان الشريعة مؤهلة أكثر من غيرها لأن تتولى مهمات العقل العملي المختلفة" وهي وحدها قادرة على التعامل مع الجمهور على قدر عقوله الذهنية. اعتماداً على تقسيم وظائف العقل الى ثنائية منفصلة، قام ابن رشد بتقسيم مسارات التطور الى خطين غير متصلين يخاطب كل منهما فئة من الناس تشترك في خصائص عامة لكنها تختلف في عقولها. وعلى هذا قسم الوجود، كما يذكر المصباحي، الى موجود وماهية، والعقل الى عملي ونظري، والناس الى جمهور وخاصة، والحقيقة الى شريعة وحكمة، والسعادة الى نظرية وعملية… وهي كلها متعارضة في طرق وصولها حتى لو كانت متصلة في الجوهر. نشأت عن الثنائية الرشدية مشكلة في وعي فيلسوف الأندلس السياسي اذ كان "لا ينظر الى الانسان الا داخل الدولة القوية بوحدة عقيدتها ورسوخ فضائلها ووفرة صنائعها والتفاف جمهورها". واحدثت الثنائية اضطراباً في منهجه العام ساهم في التشويش على فلسفته فصدرت عنه تصريحات متباينة "تنتصر احياناً للانسان بما هو انسان، وأحياناً للانسان من حيث ان غايته الدولة، وأحياناً ثالثة للانسان من حيث هو عابد لله". لا نجد مثل هذا الاضطراب في فكر الغزالي الذي شكل ظاهرة المثقف والفيلسوف والفقيه القلق في سلوكه والمتماسك في منظومته المعرفية. فالمشروع الاحيائي الذي أسسه الغزالي هو في الآن مشروع اصلاح وحركة اصلاحية شاملة للدين والدنيا. كذلك نجد ابن رشد يختلف عن مكونات مدينة الفارابي "الفاضلة" التي ركزت على السعادة المدنية، ويختلف عن ابن باجه الذي ركز على استحالة "المدينة الكاملة" معتبراً ان الانسان الكامل لا وجود له في تلك المدينة لأن تلك المدينة غير موجودة. فابن باجه تصور مدينة تقوم بأفعال صائبة دائماً وهي مثالية وخالية من الأمراض ولا يوجد فيها طبيب أو قاض بسبب انتفاء عناصر الكذب والجريمة كذلك لا يوجد فيها نوابت معارضة، وبالتالي فإن السعداء هم الغرباء وهؤلاء سافروا بأفكارهم الى مراتب هي لهم كالأوطان ويعيشون في ظلالها باستقلال عن واقعهم الفاسد. اختلف ابن رشد عن غيره من الفلاسفة المسلمين فهو ليس افلاطونياً على طريقة الفارابي المدينة الفاضلة وابن باجهالمدينة الكاملة وليس فقيهاً صاحب مشروع احيائي للدين واصلاحي للدولة على طريقة الغزالي، وليس صاحب رأي في فقه المعاملات الفروع اذ ترك أمور العامة للعقل "العملي" الذي تدير الشريعة شؤونه، واكتفى بالتحليق في فضاء الارسطوية ظناً منه بأن "العقل النظري" غير كائن ولا يلحقه الفساد. ومع ذلك لم يفلت من التناقض في أقواله، فهو تمسك بمقولة "الحق لا يضاد الحق" وبالتالي فإن مقاصد الشرع مطابقة لمقاصد الفلسفة في الجنس والغاية. والانسان السعيد في النهاية يستمد معناه من جذرين: الشريعة والحكمة. الا ان القول بوحدة الشريعة والفلسفة هو، كما يذكر المصباحي، محاولة "اعتراف بقدرة العقل على ان يشرع لنفسه وللناس وللعالم" كما فعل الغزالي في مشروعه الاحيائي. الا ان ابن رشد أصرَّ على التقسيم الوظائفي للعقل وقسم "العمل بين الشريعة والحكمة، فخص هذه الأخيرة بالتشريع النظري، وأوكل للشريعة بالتشريع العملي". وبسبب هذه الثغرة أحال ابن رشد مشروعه الى الفلسفة اليونانية "سواء بالتبني والاقتباس أو بالمعارضة والنقد" ولم يهتم كثيراً بالبعد الاحيائي من مشروع الغزالي اذ اكتفى بنقد "الجانب النقدي للفلاسفة من مشروعه الفكري" وانصب جهده على معارضة "مسائل العقل النظري من تفكير الغزالي على حساب قضايا العقل العملي". ويستخلص المصباحي من دراسته ان استراتيجية ابن رشد الانتقائية وقناعاته الفلسفية التي ترى ان مجال العمل "هو مجال الجمهور لا مجال الفلسفة" هي من بين "العوامل التي أفضت الى انطفاء شعلة الفكر الرشدي في العالم العربي والاسلامي بعد وفاته مباشرة". فهو تجرأ على جملة من العقائد النظرية المتصلة بالشريعة الا انه "لم يترك لنا كتباً من شأنها ان تشغل الدنيا والناس". ويبقى السؤال: ماذا بقي من حداثة ابن رشد في نهاية القرن العشرين؟ عن هذا أجاب استاذ الفلسفة في جامعة ليفربول أوليفر ليمان، واختلف في جوابه عن المصباحي. فالأخير تناول الجانب العملي الاجتماعي في الفكر الرشدي بينما ركز ليمان بحثه على الجانب النظري العقلي من فكره وتوصل الى استنتاج مناقض للمصباحي اذ استبعد موت أفكار ابن رشد فهو "بعيد عن ان يكون قد مات". يبدأ ليمان من سؤال "ماذا بقى حياً من فلسفة ابن رشد؟" وما هي الجوانب في فكره التي تستحق التأكيد عليها؟ ويستخرج من فلسفته مجموعة نقاط ما تزال برأيه حديثة ويمكن استخدامها، أبرزها فلسفته في اللغة. اذ كان وصفه للغة مهماً ومناسباً فهو "يقول انه في وسعنا ان نربط بين استعمالات عدة للفظ الواحد حتى وان كانت تختلف في ما بينها". فهناك دلالات مختلفة للفظ و"في نظريته في الدلالة ينطبق اللفظ انطباقاً واضحاً على المعنى". وبعد تعريف اللفظ ودلالاته بهذه الكيفية "نحصل على ما جاز ان نعتبره أحسن مثال في استعماله". وبرأي ليمان "هذا جانب أساسي في نظرية ابن رشد في الدلالة" لأنه استخرج منه سلسلة أمور أصلية "فالانسان العادي يدرك الأشياء في حقائقها ادراكاً صحيحاً مثل الفيلسوف أو العالم بأمور الشرع، شريطة ان يكون قادراً على استعمال مفاهيم تتصل بهذه الحقيقة اتصالاً ضعيفاً" خصوصاً اذا ما أخذنا في الاعتبار "الفكرة التي ترى في العلاقة بين الاستعمال العادي للغة واستعمال الفيلسوف لها علاقة مجاز أو التباس أو اهمال". فهذه المسألة ما تزال باقية الى اليوم اذ "لم نعد نميل في الفلسفة الى تفضيل شكل خاص من أشكال التعبير واعتباره الشكل الصحيح في وصف ما عليه الأمور". الى اللغة هناك مذهب "الحقيقة المزدوجة". ففي عصرنا لم تعد هناك قضية صادقة وقضية كاذبة بل لا توجد قضية هي "صادقة وكاذبة في الوقت نفسه"، الا انه "يمكن لقضية ان تكون صادقة من وجه، كاذبة من وجه آخر". وعلى هذا لعبت المبادئ الرشدية في أوروبا دوراً كبيراً في نهضتها حين أكدت على ازدواجية الحقيقة واختلاف طرق الوصول اليها وحدة الحقيقة. وبرأي ليمان "هذه فكرة حديثة جداً، ونكاد نقول عنها انها تنتمي الى ما بعد الحداثة". وهذا يعني "ان الأساس في الفكر الانساني هو نفسه عند كل واحد، وان الطريق الوحيد لنميِّز بعضنا عن بعض في كوننا نعقل الأشياء هو في طبيعة أفكارنا المتباينة". الى ذلك هناك نظرية ابن رشد في الفلسفة السياسية، فهو "أصاب في اتخاذ جمهورية أفلاطون دليله الأول في النظرية السياسية" فالناس في النهاية "مختلفون وتتفاوت قدراتهم على بلوغ الكمال العقلي". ويرفض ليمان اتهام فيلسوف الأندلس بأنه صاحب المذهب النخبوي. فنظريته التفاضلية والتراتبية ليست نخبوية بل واقعية في تنظيم المجتمع لأن المشكلة في طبيعة المجتمع هي تنظيم التفاضلية والتراتبية ولا "سبيل الى ان يشارك الناس كافة على التساوي في تدبير شؤون الدولة أو في التدخل في تحديد طبيعتها". فابن رشد يرى "ان أولئك الذين حصّلوا المعرفة النظرية الصحيحة هم الذين يستحقون تولي الحكم". وانحيازه الى ما يسميه "الفضائل النظرية" ووضعها في أعلى نظام القيم ليسا كافيين لاتهامه بالنخبوية. ويشبه قوله هذا قوله بالحقيقة الواحدة اذ لا يؤدي الاشتراك في الحقيقة الواحدة بالضرورة الى حصول التصور نفسه عن العدالة، لأن المهم "هو وجود علاقة منطقية حقيقية بين المثال الكامل للمفهوم ومستوياته الغامضة والمنحطة عنه". وتصور ابن رشد للمجتمع المؤتلف والمتقدم من الناحية الروحية "يفترض نظرية في الدلالة يصبح فيه تقدير تلك الفروق له مغزى". ومن خلال وعي الفروقات هذه يصل ليمان مع فيلسوف الأندلس الى نظرية العقل والالتزام به على رغم انه يبالغ في استحالة التعارض بين الدين والعقل، وهذه من خصوصية فلاسفة الأندلس اذ كان من الصعب آنذاك التمييز بين "صفة الفيلسوف" و"صفة الحكيم". ويشير الى الجدال بين ابن رشد الفيلسوف وابن عربي الصوفي حول "منزلة الآراء في الموضوعية في مقابلة الذاتية"، وكيف انتصر قاضي قرطبة للعقل ودلالاته وصلته باللغة ودلالاتها. فصلة العقل باللغة تتفرع الى نوعين، الخبر وهو مشترك والمنطق وهو خاص. ومن الخاص توصلت الرشدية الى العقل البرهاني والأدلة البرهانية واللغة واستخداماتها المختلفة. وانطلاقاً من هذا التعارض "بين تصورين عمليين للغة بين اعتبارها تربط الألفاظ بالمعاني ربطاً ضعيفاً وبين اعتبارها تصوراً مثالياً للغة يحدد الدلالة بمعايير معينة" استمر ابن رشد حياً الى أيامنا، اذ برأي ليمان، ما زال هذا التعارض "يتحدى الفلسفة الحديثة". - مصادر تعليقات على "ندوة تونس" 1 - في الابانة عن سبب وجود مخطوطات عربية اللفظ وعبرية الحرف لابن رشد، عبدالقادر بن شهيدة. 2 - هل فهم تراجمة ابن رشد اليهود الوسطويون لغة ابن رشد، احمد شحلان. 3 - السند الاسلامي للانبعاث الغربي، احسان نراقي. 4 - موقف بعض الجامعات الأوروبية من فلسفة ابن رشد في العصور الوسطى، عبدالواحد ذنون طه. 5 - صدى نظريات ابن رشد في أوروبا الغربية القروسطية، علي الشنوفي. 6 - قدم العالم بين ابن رشد وتوما الاكويني، ماجد فخري. 7 - ابن رشد والعلم الطبيعي في الشرح الكبير لكتاب النفس لأرسطو، ابراهيم الغربي. 8 - نقد ابن رشد لفلسفات الوجود على ضوء مذهبه الخاص، حسام محيي الدين الآلوسي. 9 - نقطة انطلاق الاخلاق في فكر ابن رشد، غانم هنا. 10 - التربية عند ابن رشد، هشام نشابة. 11 - عرض كتاب "بداية المجتهد ونهاية المقتصد" لابن رشد. بحث مقدم من دون اسم. 12 - أصول الفقه والاتجاهات المعاصرة في فلسفة القانون، عمار الطالبي. 13 - منزلة العقل العملي في فلسفة ابن رشد، محمد المصباحي. 14 - ماذا بقي من فلسفة ابن رشد وماذا ذهب منها؟ اوليفر ليمان.