في سياق فكري ما بعد حداثي مجاوز لفكر الأنوار ومركزيته المبجلة لسلطة العقل كما اتضحت مع فلسفة الوعي عند ديكارت المقر بكوجيتو قوامه «أنا أفكر إذن أنا موجود»، أين تحقق الذات وجودها من خلال تعقل ذاتها والعالم من حولها عبر آليات الإثبات والنفي والإرادة والتخيل والإدراك. هنا تتجلى قيمة الإنسان في توظيفه لنور العقل المستدل والموصل إلى الحقيقة الواضحة وضوح البداهة وذلك عبر التسليم بيقينية مبادئه البينة، لكن المنعطفات الما بعد حداثية تنفلت من هذه القراءات الكلية الشمولية التي يبرز فيها مفهوم الأنا عامّاً في فهمه من خلال انطلاقه من منهج رياضي ينتقل من وضوح يضاهي وضوح البديهيات إلى التحليل والتركيب ومن ثمة الاستنتاج، لقد اتضح هذا التوجه أكثر مع فلاسفة الاختلاف الذين انخرطوا في سياق تاريخي وفكري ابستيمي وثورات علمية هزت الاعتقاد بثبات الحقيقة وأقرت انفتاحها على التعدد، إن هذه القدرة على فهم العالم كانت نتيجة تحولات مستوحاة من ثورات علمية كما اتضحت مع إمكانيات الهندسة اللإقليدية بمنهجها الفرضي الاستنتاجي المخالف للهندسة الإقليدية، كما برزت تأثيرات ميكانيكا الكم أو الكوانتم المقرة لاختلاف عالم الماكروفيزياء المؤكد لحتمية الظاهر عن عالم الميكروفيزياء المعترف باللاحتمية في مستويات الذرة، أما من الناحية النفسية فإن فرضية فرويد التي مفادها أن الشعور العقلي ليس سوى جزيرة في بحر متلاطم من اللاشعور واللاعقلي شكلت ثورة على فلسفة الوعي والتمثل، فضلاً عن تطور الأبحاث الأنثروبولوجية التي خالفت إرث المركزية الغربية في تأكيد لعدم وجود عقلية ومنظومة فكرية صالحة كلياً في العالم تنطبق على جميع الثقافات. مع هذه التحولات وغيرها برز تيار الاختلاف الذي دافع عنه العديد من رموز الفلسفة الغربية المعاصرة الذين اتفقوا على رفض فلسفة الهوية والوحدة والمركزية مطالبين باعتماد قيم التعدد والمغايرة وهي الثورة التي ترسخ قول الذات اعتماداً على المختلف في نقد لثبات المعايير المطلقة، هذا الطرح صاغه سابقاً نيتشه الذي حفر عن مصادر الخير والشر والعدل والظلم والعمل والثواب، هادفاً إلى رفع حجب الزيف التي أضفاها التاريخ البشري على هذه المفاهيم عبر ابتكار جنيالوجي قابل لإسقاط راهن. في فرنسا برز هذا التيار بقوة مع ميشال فوكو ( 1926- 1984)، جاك دريدا (1930-2004) وجيل دولوز (1925- 1995 ) وغيرهم من الفلاسفة الذين عبروا عن نفورهم من سلطة الفكر الأحادي المبرر للقيم المطلقة، اهتم فوكو بتحليل العلاقات على مستوى الانتظمات الخطابية مستعينا بمنهجه التنقيبي الأركيولوجي، هنا الكثير لم يعد محمولاً معارضاً للواحد أو صفة تستند لذات توصف بأنها واحدة، بالنسبة لفوكو يختلف الأمر حين تعتبر الفترات أو التشكيلات التاريخية على أنها ألوان كثرة، كما أن القواعد الخطابية التي تبرز في العبارات البليغة الأثر ضمن قواعد الحقل الذي تتوزع داخله، ترتبط فيه كل عبارة بباقي العبارات الأخرى المغايرة لها والتي رغم اختلافها تُكون كلاً واحداً متصلاً تحكمه قواعد الانتقال. بدوره اهتم جاك دريدا بالكتابة والاختلاف وبالبحث في الهوية داخل اللغة مطبقاً قراءة تفكيكية تسائل تمركزات ومقولات الفكر الميتافزيقي الغربي من قبيل اللوغوس، الجوهر والأصل، متجاوزاً سلطة المبادئ العقلية والمنطقية في الفلسفة الغربية نحو إعادة قراءات مبنية على انفتاح النصوص على نظرية التلقي. كما ينتقد دولوز رتابة ومركزية الأنا في فلسفة الذات (عند ديكارت) لصالح بحث عن مفهوم الاختلاف لا يختزل إلى مجرد اختلاف مفهومي، طالما أن الفلسفة حسبه ليست إلا إبداعاً للمفاهيم، ينحت تصوره عن التجريبية المتعالية المعبرة عن عملية ربط للفكر بالممارسة، حيث لا تكون المفاهيم الفلسفية مجرد تنظيرات جوفاء بل ملاء زاخر يستقى صور الفعل الذي يرصد الحدث ويتفاعل معه، كما يوظف مفهوم الجذمور المبرز للامتداد والتشعب السطحي عبر مسرات شبكية تختلف عن منطق الجذر المرتبط بنمط الفكر الكلاسيكي المهوس بالأصل والتراتبية التي تُغَيِب المهَمش. إن نمط هذا الطرح يمكن أن يهب الفكر قوة رحالة، تزعزع النماذج التي تثقل كاهله وتوجهنا صوب خاصية فكرية أفقية تطرح التعدد وتقبل بالمغايرة التي لا تقصي الأخر، بهذا الطرح تنفلت الفلسفة من فكر المركز المحدد لمعايير ملكية الحقيقة وثباتها وتدعونا للانفتاح أكثر على قبول الاختلاف. *ممثّلة إدارة المعرفة بأكاديمية فنسفة جاك دريدا جيل دولوز ميشيل فوكو