تعد اللغات عنصراً أساساً من عناصر تكوين الهوية، وتعد اللغة العربية أهم عناصر تكوين العرق العربي وإليها يُنسبون، فقد سُمي العربي عربياً للسانه، ومن ثم اكتسبت هذه اللغة أهمية إضافية بعد ظهور الإسلام فكساها القرآن قدسية وزاد على هويتها القومية أهمية دينية، فصارت لغة المسلمين من كل بقاع الأرض وباختلاف الألسنة والأعراق. وقد بدأ اهتمام العرب بلغتهم منذ وقت مبكر، في الوقت الذي دخل فيه غير العرب الإسلام، واختلط العرب بغيرهم فتسرب الفساد إلى الألسن، ولما للّغة من أهمية - كما أسلفنا- توجهت أنظار علماء العربية إلى الطرق الممكنة للحفاظ عليها بعيداً عما يشوبها من خلل، بحيث تظل تراكيبها اشتقاقاً وإعراباً ودِلالة، نطقاً وكتابةً كما شاء الله لها أن تكون آية في البلاغة ومعجزة خالدة عبر كتابه الكريم، فازدهر التأليف وغزر التدوين في علوم العربية كلها في النحو والصرف والبلاغة والأدب واللغة، لا من العلماء العرب فحسب بل من كل العلماء المسلمين سواءً العرب وغيرهم من الأمم. ثم يأتي العصر الحديث ويحدث انفجاراً علمياً وتكنولوجياً، ويهرع الآباء إلى تعليم أبنائهم الإنجليزية، وتسليحهم بسلاح يقدرون بواسطته شق طريقهم في حياتهم العلمية والعملية، ولا محاجّاة في ذلك، لكن في أثناء تمهيد الطريق لهم لتعلم لغات أخرى نسوا تقويم ألسنتهم أولا بلغتهم الأم - ويبدو أن إطلاق الأم على اللغة الأساس لم يأت من عبث- فنشأ جيل لا يتقن العربية ليربي جيلاً لا يتحدث العربية، فتقف مشدوها بين الهيئة واللسان، متعجباً من عدم تطابقهما، وما لا يدركه هؤلاء الآباء أي جناية يجنونها على أبنائهم من حيث ظنوا أنهم يحسنون صنعا. تكمن الكارثة في أن اللغة ليست حروفاً وكلماتٍ وجملاً فحسب بل هي طريقة تفكير وتركيبة جينية غريزية في الإنسان، فهل نحن نفكر خارج اللغة وبعيداً عنها! لا أظن ذلك. إنك حين تتمعن تبعات هذا الأمر على المدى البعيد ترى أن بُعد الطفل عن لغته يُنشئه بعيداً عن محيطه، وعاداته وتقاليده ثم في المرتبة الأولى بعيداً عن دينه، فكيف سيقرأ القرآن وإن سمعه فكيف سيفهمه؟ كيف يتعرف على تاريخه وحضارته؟ أم أنه سيقرأ تاريخه مترجماً بلغة أخرى ووجهة نظر أخرى قد تكون متحاملة بل وربما معادية؟ إن تعلم اللغات الأخرى ليس عائقاً أمام تعلم العربية والعكس صحيح، ويستطيع الإنسان تعلم أكثر من لغتين، فبعض علماء العربية يجيدون أكثر من لغتين بل وأكثر من ثلاث لغات، ولم يقف تعلمهم العربية عائقاً أمام تعلم اللغات الأخرى، أما الاهتمام باللغات الأخرى على حساب اللغة العربية فلم يُنشئ لنا إلا أجيالاً ضيعت مشيتها فلا هي إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، فبين زحف اللهجات والتعليم الأجنبي وإهمال أولياء الأمور، صار «الشق أكبر من الرقعة» ولهذا التفتت المملكة العربية السعودية إلى لغتها الرسمية، وأولتها اهتماماً بالغاً بتعليمها وتعلمها، كما يبذل مجمع الملك سلمان للغة العربية وقبله مركز الملك عبدالله لخدمة اللغة العربية جهوداً حثيثة في هذا الشأن، لأن أهمية اللغة أمر وعاهُ رأس الهرم في الدولة، وبقي أن يعيه أولياء الأمور. باسل بن أحمد الصالح