كيف يتعلم الإنسان العربي اللغة العربية اليوم؟ وكيف تعلمها العربي القديم؟ هل اللغة العربية الفصحى طبيعة في العرب القدامى، أم أنها كأية عادة مكتسبة تتعلم عن طريق التدريب؟ ربط بعض علماء اللغة القدامى بين السليقة والعروبة، فوصلوها بالجنس العربي المفطور في ظنهم على الفصاحة والبراعة، ولم ينظروا إلى عامل الدّربة والمرانة. ويتصور الذي يقرأ مقولاتهم أن العربي الجاهلي والراشدي لا يخطىء، وأن العرب سواء في الفصاحة صبياناً وفتياناً وشعراء وكتّاباً وصغاراً وشيوخاً ورجالاً ونساءً، كما يقول أبو المكارم في تقويم الفكر النحوي: "لقد ظنوا أن اللغة العربية ما دامت سليقة عند العرب فمن الطبيعي أن يكون كلّ كلام أي عربي خالص العروبة، غير متأثّر بعوامل أجنبية عربياً، أي متّسماً بالظواهر التي تميّز الفصحى عن غيرها". وبنوا فكرتهم هذه على تفسير خاطئ لمفهوم السليقة، يربطون فيه بينها وبين الدم والجنس ويردّونها إليه لا إلى الدّربة والمرانة والمعاناة، وحسبوا أنّه ما دام العربي خالصاً من الهجنة، والحياة العربيّة بريئة من شوائب العجمة، فمن المحتّم أن يكون النّشاط اللّغويّ الذي يصدر عن هؤلاء البشر، في هذه الظروف، عربياً صحيحاً فصيحاً. لقد ظنّوا بأنّ الملكة اللّسانية التي تمتّع بها العرب قديماً، قبل صناعة النحو، إنما هي جبلّة وطبع، وأنّها حصلت لهم بالطّبع العربي الخالص المتميّز بالفصاحة والبلاغة، وأنّها لم تكن نتيجة تمرين وتدريب على السماع والمحادثة. وهذا الرأي خطأ كبير جرّ إلى أخطاء عدة، منها المغالاة في الفصاحة، ومنها تقديس أخطاء العرب، مع أنّ اللغة كالمشي والإنسان الذي يمشي كالجواد الذي يجري قد يكبو، ولكنّ الكبوة لا تعدّ دليلاً ولا حجة إنّما هي نمط متعثر من أنماط اللغة الرديئة أو القليلة، يمكن أن نعبّر عنها كما عبّر سيبويه بأنّها "شاذّة أو قليلة" من دون أن نلجأ إلى التأويل. وهذا الرأي الخاطئ تقصم ظهره "نظريّة اكتساب اللّغة" التي قررت أن الاستعداد اللغوي فطري لدى كلّ إنسان، فكل إنسان قد خلقه اللَّه ولديه كومبيوتر ذهني عضوي يتيح له أن يتعلّم هذا النظام. وهي حقيقة - على أهميتها - بسيطة، لا يحتاج إدراكها إلى كثير علم ولا بحث. وقد أشار إليها ابن خلدون قبل تشُومسكي وسوسير. اللغة - إذن - ليست فطرة بل هي عادة مكتسبة، ولكن الاستعداد لها فطري ولذلك يتعلّمها الأطفال بالأسلوب الطبيعي حين يتعلّمون لغة الأم، فيصبحون بسرعة كبيرة قادرين على فهم عدد غير محدود من العبارات وتوليدها، كما قال مارك ريشيل في كتاب "نظرية اكتساب اللغة": "يؤكد علم اللغة النّفسي أن أطفال البيئات الاجتماعية الاقتصادية الممتازة يتكلّمون أسرع وأدق وأقوى من أطفال البيئة الاجتماعية الدنيا، وكلّما تعدّدت خبرة الطفل واتّسع نطاق بيئته ازداد نموّه اللغوي". ويؤكد علم اللّغة النّفسي أيضاً أن اختلاط الطفل بالبالغين الراشدين أساس اكتساب اللغة ونموّها لأنها تعتمد على تقليد الراشدين. ولغة الراشدين أفضل النماذج الصّالحة لاكتساب الطّفل مهارة اللغة كما ذكر الدكتور منصور عبدالمجيد في كتاب "علم اللغة النفسيّ". وواضح من ذلك أنّ السلوك اللّغوي له علاقات عدة بخصائص الإنسان، ومن أهمّها: العلاقة بين اللغة والدماغ والتّخصّصات التي اكتشفت في أجزائه المختلفة، ومنها أيضاً العلاقة بين اللغة وتركيب جهازي السمّع والنطّق. وهذا ما عناه ابن خلدون بالملكة، فإنّه عند تحليل عمليّة اكتساب الملكة اللغوية أثار مسألة اكتساب اللغة بوضوح، وأبدى بعض الآراء التي تعتبر تجديدية بالنّسبة إلى عصره. فقد بيّن كيفية اكتسابها فقال: "وهذه الملكة إنّما تحصل بممارسة كلام العرب، وتكرّره على السمع، والتفطن لخواص تركيبه، وليست تحصل بمعرفة القوانين العلمية التي استنبطها أهل صناعة البيان، فإن هذه القوانين إنما تفيد علماً بذلك اللسان ولا تفيد حصول الملكة في محلها" المقدمة: 562. ويلتقي ابن خلدون في ذلك مع الألسنية التوليديّة والتحويلية التي تظهر أهمية هذه المسألة، كما ذكر تشومسكي، إذ يقول إن المسألة الأساسية في دراسة اللغة هي أن نفسّر اكتساب اللغة بالتجربة اللغوية العادية التي من خلالها ينمو في الدماغ "جهاز كفاية قواعدية". ومعنى ذلك أن اللغة تتعلّم من خلال السمّاع والنّطق، فهي عملية ميكانيكية تتم بصورة عفوية طبيعية يقوم بها الإنسان انطلاقاً من قدراته الذّاتية، ومن خلال سماع كلام أهله وأهل جيله. فالسمع، كما يقول ابن خلدون: "أبو الملكات اللسانية" المقدمة: 546. فعمليّة اكتساب اللغة تتمّ من خلال سماع كلام البيئة، كما تتمّ من خلال المحاولات التي يقوم بها الطفل للنطق. فالطفل يسمع كلام أهل بيئته، ثم يحاكيهم في إنتاج المفردات والتراكيب. وهذا ما هو حاصل الآن في تعلّم اللهجة العاميّة، فالأطفال لا يحتاجون إلى كتاب قواعد كي يجيدوا اللهجة العاميّة لأنهم ينطقون بها بشكل طبيعي، آخذين أنماط الجمل الصرفية والنحوية من المحيط الأسري والاجتماعي. إذن ينبغي أن نركز على وسائل تنمية الملكة والسليقة اللغوية التي هي في جملتها، كما يقول الدّكتور عبدالرحمن صالح: "مهارة التصرّف في بنى اللّغة بما يقتضيه حال الحديث" أي القدرة على التطبيق الفعّال لما تواضع عليه أهل اللّغة. وبعبارة أخرى هي القدرة على الاتصال اللغوي، في جميع الأحوال، بما يقتضيه الوضع اللغوي. وابن خلدون يلفت نظرنا أيضاً إلى أنّ اكتساب اللّغة يتم بإحدى طريقتين: الاكتساب الطّبيعي، وهو اكتساب الإنسان لغته في مرحلة الطّفولة من خلال ترعرعه في بيئته، ومن خلال سماع كلام المجتمع المحيط به. وهذا الاكتساب ميكانيكي يتمّ بصورة عفوية ولا يرتبط بجنس الطفل إنما يكتسب الطفل لغة البيئة. وهذا ما يعنيه بقوله: "المتكلّم من العرب، حين كانت ملكة اللّغة العربية موجودة فيهم، يسمع كلام أهل جيله وأساليبهم في مخاطباتهم وكيفيّة تعبيرهم عن مقاصدهم، كما يسمع الصبي استعمال المفردات في معانيها، فيلقنها أولاً، ثم يسمع التّراكيب بعدها، فيلقنها كذلك، ثم لا يزال سماعه كذلك يتجدّد في كل لحظة ومن كلّ متكلّم، واستعماله يتكرّر إلى أن يكون ذلك ملكة وصفة راسخة، ويكون كأحدهم. وهكذا تصير الألسن واللغات من جيل إلى جيل" المقدمة:555. ويرد ابن خلدون على من لم يفرقوا بين الاكتساب الطبيعي والطبع من الذين يؤكدون أن اللغة في العرب طبيعة وجبلة ويرددون: "كانت العرب تنطق بالطبع"، فيقول: "ليس كذلك، إنما هي ملكة لسانية في نظم الكلام تمكّنت ورسخت، فظهرت في بادئ الرأي على أنّها جبلّة وطبع" المقدمة: 561. وابن خلدون يرى أنّ الإنسان يتكلّم لغته بصورة طبيعية، لكن ذلك يحصل من خلال اكتساب يتمّ عند كلّ إنسان، والملكة اللسانية حصيلة هذا الاكتساب، كما قال: "لأنّ الأفعال الاختيارية كلّها ليس شيء منها بالطّبع، وإنّما هو يستمر بالقدم والمران حتى يصير ملكة راسخة، فيظنّها المشاهد طبيعية، كما هو رأي كثير من البلداء في اللغة العربية من ]الذين يقولون[ إن العرب كانت تعرب بالطبع، وتنطق بالطبع، وهذا وهم" المقدمة: 529. وهذا يعني أمراً مهماً في التعليم هو أن المهارة اللغوية مكتسبة، ولكن الاكتساب نوعان: الأول طبيعي ويحصل من خلال الترعرع في البيئة، كما في اكتساب اللهجة العامية. والثاني الاكتساب الصناعي بواسطة الحفظ والمران، أي اصطناع جوّ طبيعي يتم، كما قال ابن خلدون، بأمرين: كثرة الحفظ وكثرة الاستعمال، "فتحصل له هذه الملكة بهذا الحفظ والاستعمال، وتزداد بكثرتهما رسوخاً وقوة" المقدمة: 559. ومعنى ذلك أن تعلّم اللغة يتم من خلال توفير مادة كلامية حية تحمل النتاج الثقافي الأدبي الفصيح، وهذا يعني أن يتم تكوين نماذج من الأنماط اللغوية يقوم المتعلم بمحاكاتها بعد تكرارها وطول التمرّس بها، كما يؤكد عدد من الباحثين المحدثين. أي لا بد لمن يرغب في اكتساب اللغة العربية من تطبيع مناخ لغوي إذا غاب المناخ الطبيعي. فالمهارة اللغوية التي كانت طبيعية الاكتساب في العرب أصبحت تحتاج إلى مناخ لغوي مصطنع، ويرفض ابن خلدون أن يكون لعلم النحو أي فائدة ملموسة في بناء المهارة، فيقول: "وتعتقد النحاة أن ]المهارة اللغوية[ بصناعتهم، وليس كذلك وإنما هي ب... مخالطة اللسان وكلام العرب" المقدمة: 563. ويعتبر أن فصاحة بعض النحويين ليست ثمرة دراسة النحو بل ثمرة كثرة النصوص الأدبية في بعض كتب النحو، فيقول: "وقد نجد بعض المهرة في صناعة الإعراب ]متمكناً من[ هذه الملكة، وهو قليل اتفاقي، وأكثر ما يقع للمخالطين لكتاب سيبويه" المقدمة: 560. ويبيّن أن كتاب سيبويه يحقق فائدة في تعليم المهارة اللغوية، ليس لما فيه من قواعد نظرية بل لما يحتويه من أمثلة وشواهد أدبية، لأنّه لم يقتصر على قوانين الإعراب بل ملأ كتابه من أمثال العرب وأشعارهم وعباراتهم، فكان فيه جزء صالح المقدمة: 560 يساعد المتعلم على محاكاة الأنماط. ولذلك فإن العاكف عليه يحصل على حظّ من كلام العرب. ولا يكتفي بتقرير أن علم النحو لا ينشئ صحة اللغة فضلاً عن الفصاحة، بل يؤكد أنه يؤدي إلى خلاف الغاية، فهو يطمس الحس اللغوي والذوق الأدبي الذي يحصل عليه الناشئ من سماع النصوص الأدبية الجيدة ومن ممارسة التكلم والقراءة. ويهاجم الوهم الشائع الذي روج له النحويون، فيقول إن الذين يدرسون "القوانين النحوية مجردة من أشعار العرب وكلامهم يحسبون أنهم حصلوا على رتبة في كلام العرب، وهم أبعد الناس عنه" المقدمة: 560. ويبرهن على دعواه بضعف لغة علماء النحو، فيقول: "تجد كثيراً من جهابذة النحاة والمهرة في صناعة العربية، المحيطين علماً بتلك القوانين، إذا سئل في كتابة سطرين إلى أخيه... أخطأ فيها الصواب، وأكثر من اللحن" المقدمة: 560. وينقض دعوى الذين ربطوا بين دراسة علم النحو والمهارة اللغوية، فيقول: "نجد كثيراً مِن مَن يحسن هذه الملكة ويجيد الفنين من المنظوم والمنثور وهو لا يحسن إعراب الفاعل من المفعول ولا المرفوع من المجرور ولا شيئاً من قوانين صناعة العربية" المقدمة: 560. بل إنه يشير إلى الأمر الأهم الذي ينتجه التمرس بأساليب الفصحاء، سماعاً وقراءة وحفظاً وتكراراً ومحاكاة وإنتاجاً. وهو أنه يكون لدى الدارس ميزاناً نحوياً صرفياً يدرك به صحة تراكيب اللغة أي جهاز كفاية قواعدية. ف"إن سمع تركيباً غير جار على ذلك المنحى مجّه ونبا عنه سمعه" المقدمة: 561. فابن خلدون يلتقي مع الدراسات الألسنية التي تقرر أنّ المهارة اللغوية إنّما تنشأ بممارسة الكلام وتكرّره على السمع والتفطن لخواص تركيبه، لا بالتركيز على معرفة القوانين العلمية التي استنبطها النحاة. لأن هذه القوانين إنّما تفيد علماً بتحليل اللغة، ولكنها لا تفيد في تكوين المهارة اللغوية شيئاً مذكوراً. وبذلك يخلخل ابن خلدون العلاقة التراتبية بين علم النحو وتطبيق النحو التي تزعم أن جودة التطبيق نتيجة ميكانيكية لإجادة التنظير، تلك النظرية التي ظلت مسلمة في المنهج التقليدي، فيعنون أحد فصول المقدمة "ملكة هذا اللسان غير صناعة العربية، ومستغنية عنها في التعليم" المقدمة: 559. أي أن المهارة اللغوية مستغنية عن الصناعة النحوية. وكذلك فأن اللغة كالسباحة والركض، من مارسهما جرى وعام ومن لم يمارسهما لم يجر ولم يسبح ولو قرأ ألف كتاب عن كيفية الجري والسباحة. إذن ينبغي أن ننظر إلى القواعد اللغوية العلمية على أنها مساعدة للباحث عند الاحتجاج والاستدلال لا منشئة للفصاحة. ولذلك هاجم ابن خلدون وعلماء آخرون المنهج النحوي السائد الذي صعّب تعليم اللغة. فقد نقل ابن الأزرق في شرحه لمقدمة ابن خلدون عن ابن العربي أنه قال: "من أقام عمره نحوياً فقد هلك". لماذا ؟ "لأنه بمنزلة من أراد صنعة شيء، فشحذ الآلة عمره، ثم مات قبل عمل صنعته". وهذا ليس ذماً لمن بحث في النحو، تحليلاً وتعليلاًً، لإدراك منظومة اللغة، ولكنه ذم لمن ظنّ أن علم النحو يوصل إلى صحة الكلام فاشتغل بالوسائل وغفل عن الغايات. وهذا الهجوم منبثق من نظرة عملية تربط بين الجهد والجدوى، نادى بها علماء آخرون في مجالات الفقه والعلوم عامة. قال الشاطبي في "الموافقات": "كلّ مسألة في أصول الفقه لا تبنى عليها فروع فقهية وآداب شرعية ولا تكون عوناً في ذلك، فوضعها في أصول الفقه عارية". وقال الغزالي: "كلّ ما يطلب لغيره لا ينبغي أن يستكثر منه". ومعنى هذا أن التركيز على القواعد لا يكفي لتعليم اللغة، بل لا بد من اصطناع جو لغوي يشبه الطبيعي. وجيل اليوم لا يمكنه أن يتعلم اللغة الفصحى بشكل طبيعي. من أجل ذلك ينبغي اصطناع المناخ اللغوي الذي يقوم على كثرة المقروء والمحفوظ من فصيح الكلام، لأنه هو وحده الذي يكوّن القدرة على الكلام. قال ابن خلدون: "إن اللغات لمّا كانت ملكات كان تعلّمها ممكناً كشأن سائر الملكات. والأسلوب المنتج لمن أراد اكتساب اللغة هو أن يقرأ ويدرس ويحفظ الأنماط الفصيحة من القرآن والحديث وكلام السلف ]الفصحاء[، ومخاطبات فحول العرب في أسجاعهم وأشعارهم، وكلمات المولّدين ]الفصحاء[ أيضاً في سائر فنونهم، حتى يتنزّل لكثرة حفظه لكلامهم منزلة من نشأ بينهم" المقدمة: 559. وأكد ذلك في مبحث بعنوان "فصل في أنّ حصول هذه الملكة ]أي المهارة اللغوية[ إنما يكون بكثرة الحفظ وجودة المحفوظ"، فقال: "وقد قدّمنا أنه لا بد من كثرة الحفظ لمن يروم تعلّم اللسان العربي. وعلى قدر جودة المحفوظ وكثرته... تكون جودة الملكة الحاصلة عنه للحافظ... فمن كان محفوظه من أشعار العرب الإسلاميّين، شعر حبيب أو العتابي أو ابن المعتز أو ابن هانئ أو الشريف الرضي أو رسائل ابن المقفع أو سهل بن هارون أو ابن الزيّات أو بديع الزمان أو الصابي، تكون ملكته أجود وأعلى رتبة في البلاغة مِِنْ مَنْ يحفظ أشعار المتأخّرين مثل شعر ابن سهل وابن النبيه، أو ترسّل البيساني أو العماد الأصفهاني، لنزول طبقة هؤلاء عن أولئك. ويظهر ذلك للبصير الناقد صاحب الذوق... وعلى مقدار جودة المحفوظ أو المسموع تكون جودة الاستعمال من بعده، ثم إجادة الملكة من بعدهما. فبارتقاء المحفوظ، في طبقته من الكلام، ترتقي الملكة الحاصلة لأن الطبع إنّما ينسج على منوالها" المقدمة: 577-578. لعل الاقتباسات عن ابن خلدون معذورة على رغم كثرتها لأنها تبين أموراً عدة للذين لا يؤمنون بالبديهيات، إلا إذا أوصى بها سلف قديم: أولها أن ابن خلدون وأشياعه، مِن مَن سبق ومَن لحق كابن القيم وابن حزم وابن العربي، يقلبون المنضدة على رأس التيار التعليمي السائد في الثقافة اللغوية الذي أضاع أوقات الناس في المنظومات والمنثورات والمختصرات والمطولات والمتون والحواشي التي لا يتناسب فيها الجهد المبذول مع العائد المحصود. ثانيها أن هؤلاء المصلحين نبهوا إلى أن المنهج الشائع في تعليم النحو والصرف ليس مضيعة للوقت فحسب بل إنه مفسدة للذوق الأدبي وللحس اللغوي لأنه يهدم المهارة التي بنتها النصوص الفصيحة. فقد أشاروا إلى أن النحو النظري، لو كان ينشىء المهارة اللغوية والفصاحة، لكان المغرق فيه أول من انتفع به وأفصح من غيره، وأدركوا أن صناعة النحو تعمي الذوق الأدبي. فكيف يرجى العون من علم عجز عن نفع أهله؟ وكيف يرجى من علم يعمي المهارة أن يكون هو الدليل؟ ثالثها أن معضلة تعليم النحو ناتجة عن معضلة منهجية المعرفة في عصور الانحدار، عندما شاع فيها انفصال العلم عن السلوك، وأحيلت العقول إلى التقاعد. وهذه الأزمة عمت أغلب الفكر الإسلامي. وهذا يشير أيضاً إلى خلل في التفكير العلمي الذي اعتبر حينذاك كثرة محفوظات أو كثرة مؤلفات ومحاضرات، فأقيم من ذلك تخصص شكلاني استسلم فيه الأحياء للأموات كما يستسلم المريدون للصوفي، وداروا حول هالاتهم كما يطوف السذج بالأضرحة، فانفصل العلم عن قدح شرارة التفكير وعن بث الدينامية وعن الروح العملية وعن حلول المشكلات. رابعها أن الذين يتدثرون بلبوس المحافظة على الدين والحفاظ على لغة القرآن، من أجل هدم كل فكرة لا تروق لهم، إنما ينتقون من التراث تلك الخلايا الميتة التي شلت حيوية الدين وفاعلية اللغة، ويتركون الخلايا الحية. ثم تحفزهم نرجسية التخصص إلى الاحتماء بالدين الذي دعا كتابه الحكيم إلى اعتبار العقل، ودعا الناس كافة والمسلمين خاصة إلى أن يعقلوا ويفقهوا ويتدبروا وينظروا، لأن العقل آلة اكتشاف الخطأ من الصواب. وهؤلاء إذن ينتقون من التراث ما يناسب آراءهم وأفكارهم التي شكلتها البيئة الراكدة، ولا يقولون بأمر يستند إلى البراهين ولا يحاكمون المناهج إلى النتائج ولا ينبثق فهمهم من منهج الكتاب والسنة ولا من طبيعة نظام اللغة العربية. خامسها أنه ينبغي إعادة الاعتبار إلى الذوق الأدبي والحس اللغوي اللذين أفسدهما كهان العلوم والآداب من القدامى ومن الحداثى أيضاً، الذين جعلوا العلم تمائم والأدب طلاسم فمات النص الأدبي واللغوي في مشارحهم، وكرهوا الناشئة إلى أدبها الفصيح ولغتها الجميلة بقواعدهم الجافة الخافتة الروح والوجدان. وتساوى في موازينهم المهتزة نص بليغ فصيح ونص آخر ركيك. بل ربما فضلوا النص الغثيث على البليغ عندما ضعف لديهم الحس اللغوي والذوق الأدبي بسبب إدمانهم على متون التنظير، فطاشت الفصاحة في كفة موازينهم لأن ميزان صرفهم ونحوهم وعروضهم ونقدهم وبلاغتهم قد رضي عن النص الغث فأرضاه. سادسها أن اللغة العربية سهلة ميسرة إذا حفظت من بعض سدنتها وحفظتها الذين صعبوها على الناشئة حتى كرهتها وهابتها، وفتحوا بتحجرهم فضاءً واسعاً وهم لا يشعرون لانتشار اللهجات العامية والرطانة، وفرصاً لشيوع الأدب العامي، ومبررات لدعاة الانتظار في تعريب العلوم التطبيقية وأسسها النظرية... فكانوا كالمتطبب الذي أراد أن يعالج الأحول فأعماه. * أكاديمي سعودي.