المتأمل للحياة الاجتماعية التي عاشها جيل الأمس منذ عقود قليلة ماضية يرى أن فيها عاملاً مشتركاً ألا وهو البساطة بكل معانيها التي تصاحبها العفوية والتصرف على السجية بعيداً عن التكلف في كل أمور الحياة، وتكاد تكون حالة الناس واحدة ولا يتميز البعض عن البعض الآخر إلاّ بفوارق بسيطة تحكمها الحالة الاجتماعية والمادية، فعلى سبيل المثال فإن بيوت الناس كانت كلها متشابهة ومبنية من الطين ولا يميزها سوى المساحة الكبيرة للأسر المقتدرة وشيء من طراز العمارة، كما أن الاحتفال بالمناسبات الاجتماعية يحكمه العرف، ففي الزواجات كان المهر بسيطاً ومتعارف عليه، حيث يدفع العريس من المهر ما جرت العادة به كما يدفع أقرانه من الأخوة وأبناء الجيران والحي وكان ينقص ويزيد بحسب تأمين الذهب للعروسة فإن كان هو من سيحضر الذهب فإن مبلغ المهر يقل، وإن كان سيوكل شراء الذهب إلى العروسة فإنه يزيد في المهر من أجل ذلك، فلم يكن هناك ما يسمى ب"الشبكة" التي تقد اليوم وهي طقم من الذهب يهدى للعروسة قبل الدخول بها، وعادة ما كان العريس قديماً هو الذي يحضر جهاز العروس قبل ليلة الزواج والتي غالباً ما تشمل شراء عدد من العبايات النسائية للعروس ووالدتها وأخواتها وخالاتها وعماتها بحسب عددهن وعدد من المشال الرجالية لوالد العروس وإخوتها وأعمامها وأخوالها بحسب عددهم أيضاً، إضافةً إلى شراء عدد من قطع القماش ككسوة للعروس وقريباتها وكذلك ماكينة خياطة وعطور وبخور وأدوات زينة ويحملها في صناديق حديدية مزخرفة إلى بيت العروسة. تستمر طويلاً وكان الزواج قديماً يُقام ليلة الزواج في أقرب "برحة" بجانب بيت العروس لجلوس الرجال بعد فرشها بالزل، أما النساء فيجتمعن في سطح بيت العروس أو في حوش البيت إن كان كبيراً، ومن ثم يتناولون طعام العشاء ويدخل الزوج على زوجته بدون زفة أو تكلف بينما تحيي ليلة الزواج "الطقاقات" اللواتي يضربن بالدفوف وسط النساء ويصاحب ذلك رقص من قبل أهل العروسين ومحبيهم، وبالجملة فإن تكاليف الزواج قديماً والاحتفال بليلة الزواج كانت تحفها البساطة دون تكلف، ومع ذلك فإن غالبية تلك الزواجات تستمر طويلاً وإلى الأبد ونادراً ما تنتهي بالطلاق، أمّا في زماننا هذا ومع كثرة التكاليف التي يدفعها أهل العروسين وترهق كاهليهما بداية من المهور الغالية و"الشبكة" واستئجار قاعة أفراح كبيرة لحضور الأعداد الكبيرة من المدعوين وما يصاحب ذلك من تقديم عشاء فاخر وما يقدم في قاعة النساء من أنواع الحلويات الفاخرة وكذلك إحضار فرقة شعبية لتحيي الحفل في قاعة الرجال وفنانة لتحيي حفل النساء وأستديو تصوير لتوثيق فرحة العمر، وما أن يأخذ العريس عروسه إلاّ ويطير بها إلى أحد الدول السياحية لقضاء شهر العسل ليعود بعدها وكأنه استيقظ من حلم مزعج حيث تكبله الديون ويمضي سنوات وهو أسير لها وقد تدب المشاكل الزوجية بسبب عدم استطاعته الوفاء بمستلزماته وزوجته حسب متطلبات العصر الذي نعيشه، مما جعل الكثير من الزواجات يعتريها الفشل وتنتهي بالطلاق، ويؤكد ذلك كثرة حالات الطلاق التي تشهدها المحاكم حالياً. مولود جديد وليست المظاهر التي انخرط فيها المجتمع مقصورة على الزواج وحفلاته المرهقة بل تعدى ذلك إلى الكثير من المظاهر الاجتماعية، فاستقبال المولود الجديد بات يكلف والديه الشيء الكثير، حيث يتطلب ذلك الاستعداد بالمراجعات ومتابعة الحمل في المراكز الصحية الأهلية المتخصصة واختيار مكان الولادة بمستشفى خاص بتكلفة باهظة، وذلك بحجز جناح لاستقبال الزوار وتقديم واجب الضيافة وتحديد أوقات الزيارة للأقارب وللأصدقاء والجيران في أيام محددة من الأسبوع يجرى التنسيق لها عبر رسائل التواصل الاجتماعي، بعدما كانت الولادات سابقاً تتم في البيوت أو في مستشفى حكومي والخروج من المستشفى بعد يوم أو في نفس اليوم واستقبال الزوار والمهنئين في كل وقت وحين بالبساطة والبشاشة، حيث تحضر الزائرة ومعها الشاي والقهوة وهدية للمولود عبارة عن مبلغ مالي بسيط كان يلف في منديل ورق ويوضع على المولود حين رؤيته وتقبيله، وطالت المظاهر الكثير من العادات من مأكل ومشرب وملبس واجتماعات وحفلات وأفسدت بساطتها وأفقدتها حلاوتها. مرهقة مادياً وأصبحت كل المناسبات التي يمر بها الإنسان مرهقة مادياً، خاصةً لمحدودي الدخل، فهي تتطلب مصاريف طائلة، وذلك بسبب التفاخر وحب الظهور وسعي الكثيرين إلى محاكاة من هم في مستواهم المعيشي أو أكثر، ولم يعد الأصل في أي تقليد اجتماعي السعي إلى ظهوره بالمظهر اللائق فقط بل بالوصول به إلى الكمال وجعله حدثاً يبقى في الذاكرة حتى وإن كان في ذلك إرهاق لميزانية الأسرة وجعلها تضطر مرغمة إلى الاستدانة، ومع تفشي هذه الظاهرة وهي التكلف فإن مبدأ الادخار قد ولى حيث إن كل أسرة تصرف غالب دخلها على ما يسير عليه الناس في أسلوب عيشهم فصار جل الأكل في المطاعم الفاخرة التي يجد الكثيرون أن أسعارها مبالغ فيها جداً، لكن مع ذلك تراهم يرتادونها وبكثرة متناسين بأن جيل الأمس كان لا يأكل فيها إلاّ مضطراً إلى ذلك فتراه ينعم بأكل صحي متميز وطبخ نظيف، كما كان جيل الأمس يمشي بالمثل القائل "مد رجليك على قد لحافك"، إشارةً إلى أن المرء ينبغي له أن لا يتطلع إلى ما يمكن الاستغناء عنه بوجود البديل الذي فيه سد للحاجة وصار ذلك ديدنهم في كل أمور حياتهم فعاشوا مستوري الحال ولم يحتاجوا إلى أحد، أو إلى الاستدانة من الآخرين، بل وعلاوة على ذلك فقد كانت لديهم سياسة الادخار اتباعاً إلى المقولة الشهيرة "احفظ قرشك الأبيض ليومك الأسود"، فعاشوا بعيداً عن التكلف بكل عفوية وسعادة. ترتيب الأولويات والكثير من الناس لا يفرق بين الأولويات والكماليات مما أرهق ميزانية الأسر، فعلى سبيل المثال عند التفكير في شراء سيارة تعين الأسرة في تنقلاتها لا يتم تحديد قيمة السيارة بما يتوفر لديها من النقود، بل يتم البحث عن سيارة فارهة ولو استدعى الأمر الاقتراض من البنوك وتحمل سداد ذلك سنوات طويلة ترهق كاهل الأسرة وتجعلها تعيش في تقتير وحرمان من التمتع بالسفر والكماليات التي يقتنيها معظم الناس اليوم واكتفائهم بالضروريات فقط مجبرين، وكذلك بالنسبة إلى الحصول على بيت العمر فتجد من يريد البناء يفكر في تكبير مساحة البيت على حساب الاستدانة والاقتراض من أجل إكمال البيت الذي قد يستغرق بناؤه السنوات الطوال وبعد البناء واستنفاد كل ما تبقى من مال يأتي موضوع شراء الأثاث الذي لن يرضي ذوق أصحاب البيت الفاره الكبير فيتم صرف الكثير من أجل تأثيثه بأثاث فخم يليق بفخامة البناء فتمضي الأسرة سنوات جميلة من عمرها في سداد ما تم اقتراضه وقد يستغرق أجمل سنين العمر حتى إذا دبت الشيخوخة بالزوجين وكبر الأبناء وهجروهما في بيوت مستقلة بعد زواجهم بقي البيت الكبير خالياً من ساكنيه ومكلفاً في صيانته والاعتناء به، وتتعدد الأمثلة في ذلك لتشمل كل نواحي الحياة الاجتماعية، الأمر الذي يستلزم من الجميع وقفة جادة من أجل تصحيح هذا الوضع وترتيب الأولويات وعدم المغامرة بالاقتراض الذي يسهل الحصول على الشيء ويعمي ببريقه عن التفكير المتعمق الذي ينجي من العواقب الوخيمة التي تعقبه، فليس من الضروري أن يلزم الإنسان نفسه بما لا يستطيعه مثل أن يسافر للسياحة في كل عام إلى دولة خارجية ذات معيشة غالية يدفع فيها كل مدخراته إن لم يضطر إلى الاقتراض فيعود ليسدد في أشهر ثمن ما قضاه من أيام في هذه السياحة إلى لم يبق منها سوى الذكريات فقط، وليس من الضروري متابعة الموضة في كل جديد من كماليات كأجهزة اتصال أو سيارات تستبدل وهي في حالة جيدة بل ممتازة. وتتعدد الأمثلة ولا شيء منقذ من ذلك سوى ترك التكلف والعودة إلى أيام البساطة بتقاليدها الجميلة التي عاش جيل الأمس تفاصيلها بكل فرح وسرور. ركز الناس قديماً على الضروريات في الشراء زواج الماضي مثّل أبرز صور التكافل الاجتماعي اختلفت ثقافة المجتمع في الذهاب إلى الأسواق حالياً بالتركيز على الكماليات جيل اليوم اتجه إلى شراء السيّارات الفارهة رغم غلائها السفر الآن أصبح من ضروريات الأُسر في الإجازات إعداد: حمود الضويحي