أيام قليلة ويرزق أبو خالد وزوجته مولوداً جديداً ينضم إلى أخويه، استعدادات كبيرة تجرى لاستقبال هذا الحدث العام في حياتهما، فالولادة ستكون في مستشفى خاص على حسابهما، ومن أجل ذلك لم يكتفيا بغرفة تنويم لما بعد الولادة بل حجزا جناحاً خاصاً لاستقبال المهنئين والمهنئات بقدوم الضيف الجديد، سبق ذلك الاتفاق مع أكبر المحلات المتخصصة في تنفيذ ديكور خاص للجناح، وذلك بوضع بالونات تزين مدخل الجناح على أن تكون باللون الأزرق السماوي إن كان المولود ذكراً، وباللون الوردي إن كان المولود أنثى، إضافةً إلى تنسيق الورود والكراسي لاستقبال الزوار وتوزيع المكسرات والحلويات الفاخرة والتمور وتوفير «صبابات» القهوة ومن يقوم بالتخديم على الضيوف الذين سيحضرون وأيديهم مليئة بالهدايا القيمة التي تليق بمثل هذه المناسبة السعيدة، آلاف الريالات صُرفت على مثل هذه المناسبة من أجل ظهورها بهذا الشكل، يصاحب ذلك توثيقها بالتصوير من قبل إستوديو متخصص، أو من قبل بعض الهواة والمحترفين الذين يتقاضون مبالغ طائلة، وكذلك فإن لحظات هذه المناسبة تنقل مباشرة عبر برامج التواصل الاجتماعي وأشهرها «سناب شات»، وتجد من بعض المتابعين الرواج والمتابعة لحظة بلحظة، وفي سباق محموم فقد ظهر في مجتمعنا العديد من تلك الأسر التي تتبارى في تقديم كل ما هو جديد في هذا المجال كي تتميز في مظهرها أمام قريناتها في المجتمع، تلك اللحظات السعيدة التي عاشتها أسرة أبي خالد كلفت الكثير من المبالغ الطائلة التي تكبدتها الأسرة، وقد يكون مصدرها الاستدانة من الآخرين أو الاقتطاع من مصرف الضروريات لمصروف الكماليات التي لا فائدة منها، فقد تصرف الأسرة الكثير من المبالغ رغم عيشها في منزل بالإيجار مثلاً، أو تعيش تسدد أقساط تكاليف الزواج والمعيشة من سيارة فارهة أو أثاث وغيرها. وبالرجوع إلى الماضي القريب فإننا نجد أن هناك القليل من المظاهر، لكنها ليست مرهقة كالمشاهد اليوم، بل هي محدودة في علية القوم الذين يملكون فضلاً من مال زائداً عن الحاجة، وهم قلة قليلة في المجتمع آنذاك، وإضافةً إلى ذلك فإن مظاهر الترف الزائد وغير المبرر لم تكن تحدث مطلقاً، وكان يحكم ذلك التعقل والابتعاد عن الإسراف، بل تجد أن من يفعل ذلك ويتصنعه وهو غير قادر على تلبية أعباء معيشته اليومية محل سخرية من حوله والتقريع من أقرب قريب حتى يقلع عن تلك التصرفات خجلاً من نفسه ورجوعاً إلى الحق. بساطة وعفوية والمتأمل للحياة الاجتماعية التي عاشها جيل الأمس منذ عقود قليلة ماضية يرى أن فيها عاملاً مشتركاً ألا وهو البساطة بكل معانيها التي تصاحبها العفوية والتصرف على السجية بعيداً عن التكلف في كل أمور الحياة، وتكاد تكون حالة الناس واحدة ولا يتميز البعض عن البعض الآخر إلاّ بفوارق بسيطة تحكمها الحالة الاجتماعية والمادية، فعلى سبيل المثال فإن بيوت الناس كانت كلها متشابهة ومبنية من الطين ولا يميزها سوى المساحة الكبيرة للأسر المقتدرة، وشيء من طراز العمارة، كما أن الاحتفال بالمناسبات الاجتماعية يحكمه العرف، ففي الزواجات كان المهر بسيطاً ومتعارفاً عليه، حيث يدفع العريس من المهر ما جرت العادة به وكما يدفع أقرانه من الأخوة وأبناء الجيران والحي، وكان ينقص ويزيد بحسب تأمين الذهب للعروسة، فإن كان هو من سيحضر الذهب فإن مبلغ المهر يقل، وإن كان سيوكل شراء الذهب إلى العروسة فإنه يزيد في المهر من أجل ذلك، فلم يكن هناك ما يسمى ب»الشبكة» التي تقدم اليوم، وهي طقم من الذهب يهدى للعروسة قبل الدخول بها، وعادةً ما كان العريس قديماً هو الذي يحضر جهاز العروس قبل ليلة الزواج، والتي غالباً تشمل شراء عدد من العبايات النسائية للعروس ووالدتها وأخواتها وخالاتها وعماتها بحسب عددهن، وكذلك شراء عدد من «البشوت» لوالد العروس وأخوتها وأعمامها وأخوالها بحسب عددهم أيضاً، إضافةً إلى شراء عدد من قطع القماش ككسوة للعروس وقريباتها وكذلك ماكينة خياطة وعطور وبخور وأدوات زينة ويحملها في صناديق حديدية مزخرفة إلى بيت العروسة. أقرب برحة بعد ذلك تقام ليلة الزواج في أقرب برحة بجانب بيت العروس لجلوس الرجال بعد فرشها بالزل، أما النساء فيجتمعن في سطح بيت العروس أو في حوش البيت إن كان كبيراً، ومن ثم يتناولون طعام العشاء ويدخل الزوج على زوجته بدون زفة أو تكلف بينما تحيي ليلة الزواج «الطقاقات» اللاتي يضربن بالدفوف في وسط النساء، ويصاحب ذلك رقص من قبل أهل العروسين ومحبيهم، وبالجملة فإن تكاليف الزواج قديماً والاحتفال بليلة الفرح كانتا تحفهما البساطة دون تكلف، ومع ذلك فإن غالبية تلك الزواجات تستمر طويلاً والى الأبد ونادراً ما تنتهي بالطلاق، أمّا في زماننا هذا ومع كثرة التكاليف التي يدفعها أهل العروسين وترهق كاهليهما بداية من المهور الغالية و»الشبكة» واستئجار قاعة أفراح كبيرة لحضور الأعداد الكبيرة من المدعوين، وما يصاحب ذلك من تقديم عشاء فاخر، وما يقدم في قاعة النساء من أنواع الحلويات الفاخرة، وكذلك إحضار فرقة شعبية لتحيي الحفل في قاعة الرجال، وفنانة لتحيي حفل النساء، وإستديو تصوير لتوثيق فرحة العمر، وما أن يأخذ العريس عروسه إلاّ ويطير بها إلى أحد الدول السياحية لقضاء شهر العسل ليعود بعدها وكأنه استيقظ من حلم مزعج حيث تكبله الديون ويمضي سنوات وهو أسير لها، وقد تدب المشكلات الزوجية بسبب عدم استطاعته الوفاء بمستلزماته وزوجته حسب متطلبات العصر الذي نعيشه، مما جعل الكثير من الزواجات يعتريها الفشل وتنتهي بالطلاق وتؤكد ذلك كثرة حالات الطلاق التي تشهدها المحاكم حالياً. استقبال مولود وليست المظاهر التي انخرط فيها المجتمع مقصورة على الزواج وحفلاته المرهقة، بل تعدى ذلك إلى الكثير من المظاهر الاجتماعية، فاستقبال المولود الجديد بات يُكلف والديه الشيء الكثير، حيث يتطلب ذلك الاستعداد بالمراجعات ومتابعة الحمل في المراكز الصحية الأهلية المتخصصة واختيار مكان الولادة بمستشفى خاص بتكلفة باهظة، وذلك بحجز جناح لاستقبال الزوار وتقديم واجب الضيافة وتحديد أوقات الزيارة للأقارب وللأصدقاء والجيران في أيام محددة من الأسبوع يجرى التنسيق لها عبر رسائل التواصل الاجتماعي، بعدما كانت الولادات سابقاً تتم في البيوت أو في مستشفى حكومي والخروج من المستشفى بعد يوم أو في اليوم نفسه، واستقبال الزوار والمهنئين في كل وقت وحين بالبساطة والبشاشة، حيث تحضر الزائرة ومعها الشاي والقهوة وهدية للمولود عبارة عن مبلغ مالي بسيط كان يلف في منديل ورق ويوضع على المولود حين رؤيته وتقبيله، كما طالت المظاهر الكثير من العادات من مأكل ومشرب وملبس واجتماعات وحفلات وأفسدت بساطتها وأفقدتها حلاوتها. إرهاق مادي وأصبحت كل المناسبات التي يمر بها الإنسان مرهقة مادياً خاصةً لمحدودي الدخل، فهي تتطلب مصاريف طائلة، وذلك بسبب التفاخر وحب الظهور وسعي الكثيرين إلى محاكاة من هم في مستواهم المعيشي أو أكثر، ولم يعد الأصل في أي تقليد اجتماعي السعي إلى ظهوره بالمظهر اللائق فقط، بل بالوصول به إلى الكمال وجعله حدثاً يبقى في الذاكرة حتى وإن كان في ذلك إرهاق لميزانية الأسرة وجعلها تضطر مرغمة إلى الاستدانة، ومع تفشي هذه الظاهرة وهي التكلف فإن مبدأ الادخار قد ولّى، حيث إن كل أسرة تصرف غالب دخلها على ما يسير عليه الناس في أسلوب عيشهم فصار جل الأكل في المطاعم الفاخرة التي يجد الكثيرون بأن أسعارها مبالغ فيها جداً ولكن مع ذلك تراهم يرتادونها وبكثرة، متناسين أن جيل الأمس كان لا يأكل فيها إلاّ مضطراً إلى ذلك، فتراه ينعم بأكل صحي مميز وطبخ نظيف، كما كان جيل الأمس يمشي بالمثل القائل «مد رجليك على قد لحافك»، إشارةً إلى أن المرء ينبغي له أن لا يتطلع إلى ما يمكن الاستغناء عنه بوجود البديل الذي فيه سد للحاجة، وصار ذلك ديدنهم في كل أمور حياتهم، فعاشوا مستوري الحال ولم يحتاجوا إلى أحد أو إلى الاستدانة من الآخرين، بل وعلاوةً على ذلك فقد كانت لديهم سياسة الادخار اتباعاً للمقولة الشهيرة «احفظ قرشك الأبيض إلى يومك الأسود»، فعاشوا بعيداً عن التكلف بكل عفوية وسعادة. ترتيب الأولويات ولا يُفرق الكثير من الناس بين الأولويات والكماليات، مما أرهق ميزانية الأسر، فعلى سبيل المثال عند التفكير في شراء سيارة تعين الأسرة في تنقلاتها لا يتم تحديد قيمة السيارة بما يتوفر لديها من النقود، بل يتم البحث عن سيارة فارهة ولو استدعى الأمر الاقتراض من البنوك وتحمل سداد ذلك سنوات طويلة ترهق كاهل الأسرة وتجعلها تعيش في تقتير وحرمان من التمتع بالسفر والكماليات التي يقتنيها معظم الناس اليوم، والاكتفاء بالضروريات فقط مجبرين، وكذلك بالنسبة إلى الحصول على بيت العمر فتجد من يريد البناء يفكر في تكبير مساحة البيت على حساب الاستدانة والاقتراض من أجل إكماله الذي قد يستغرق بناؤه سنوات طوال، وبعد البناء واستنفاذ كل ما تبقى من مال يأتي موضوع شراء أثاث فخم يليق بفخامة البناء، فتمضي الأسرة سنوات جميلة من عمرها في سداد ما تم اقتراضه، وقد يستغرق أجمل سنين العمر حتى إذا دبت الشيخوخة بالزوجين وكبر الأبناء وهجروهما في بيوت مستقلة بعد زواجهم بقي المنزل الكبير خالياً من ساكنيه ومكلفاً في صيانته والاعتناء به، وتتعدد الأمثلة في ذلك لتشمل كل نواحي الحياة الاجتماعية، الأمر الذي يستلزم من الجميع وقفة جادة من أجل تصحيح هذا الوضع وترتيب الأولويات وعدم المغامرة بالاقتراض الذي يسهل الحصول على الشيء ويعمي ببريقه عن التفكير المتعمق الذي ينجي من العواقب الوخيمة التي تعقبه، فليس من الضروري أن يلزم الإنسان نفسه بما لا يستطيعه مثل أن يسافر للسياحة في كل عام إلى دولة خارجية ذات معيشة غالية يدفع فيها كل مدخراته إن لم يضطر إلى الاقتراض فيعود ليسدد في أشهر ثمن ما قضاه من أيام في هذه السياحة التى لم يبق منها سوى الذكريات فقط، وليس من الضروري متابعة الموضة في كل جديد من كماليات كأجهزة اتصال أو سيارات تستبدل وهي في حالة جيدة بل ممتازة، وتتعدد الأمثلة، ولا شيء منقذ من ذلك سوى ترك التكلف والعودة إلى أيام البساطة بتقاليدها الجميلة التي عاش جيل الأمس تفاصيلها بكل فرح وسرور. حياة الأمس جميلة في تفاصيلها تكاليف الزواج أصبحت مرهقة في الوقت الحاضر الحرص على المظاهر في المناسبات أفسد حلاوة الاجتماع حتى استقبال المولود لم يسلم من التكاليف المرهقة الجري خلف المظاهر أوقع الأفراد في شر الاقتراض والديون