الأكلات التراثية في المملكة العربية السعودية تعكس تنوعًا ثقافيًا عريقًا يجمع بين أصالة الماضي وكرم الضيافة، مما يجعلها جزءًا لا يتجزأ من الهوية الثقافية للمجتمع السعودي، وتمثل المائدة السعودية مرآةً لتراث غني، حيث تتنوع الأطباق التقليدية لتشمل الكبسة، التي كان يُطلق عليها الأولون اسم "طبيخ"، إضافة إلى الجريش، والقرصان، والمرقوق، والرغيد، والقرص، وغيرها من الأكلات التي تعكس أسلوب الحياة البسيط وتقاليد المجتمع التي انتقلت عبر الأجيال. ومن المؤكد أن الأجداد برعوا في ابتكار أساليب ذكية لحفظ الطعام، خاصة في ظل غياب وسائل التبريد الحديثة «الثلاجات»، وكان من أبرز هذه الأساليب تجفيف اللحوم أو ما يُعرف ب"القفر" أو "القديد". ويُعد القفر أحد الموروثات الغذائية التي تعبّر عن مهارات الأجداد في التكيّف مع الظروف البيئية القاسية، خصوصًا خلال مواسم مثل عيد الأضحى، حيث كان تجفيف لحم الأضاحي وسيلة أساسية لضمان توفر الطعام لفترات طويلة، ذكر لي بعض كبار السن أن القفر كان يُعد بطريقة دقيقة تبدأ بتقطيع اللحم إلى شرائح طولية بحجم الإصبع تقريبًا لتسهيل عملية التجفيف، ثم تُترك الشرائح في مكان ظليل ومرتفع يسمح بمرور الهواء، مع وضع شبكة أو قماش تحتها لتصريف السوائل الزائدة. بعد ذلك، يُضاف الملح الناعم بكميات كبيرة لضمان توزيعه بالتساوي على اللحم، ويُعاد وضعه في مكان جيد التهوية بعيدًا عن أشعة الشمس المباشرة. أعتقد أن عملية التجفيف كانت تستغرق بين ثلاثة أيام وأسبوع، حسب الظروف الجوية، ليصبح اللحم جاهزًا للتخزين في أكياس قماشية خفيفة يسمونها «شاش» تسمح بمرور الهواء وتحفظ جودته. وعندما يحين وقت الطهي، يتم نقع القفر في ماء دافئ للتخلص من كمية الملح الزائدة، ثم يُضاف إلى أطباق تقليدية مثل المرقوق والقرصان، أو يُطبخ مع الأرز، مما يضفي على الأطعمة نكهة مميزة وفريدة. ومن المثير للاهتمام أن بعض الأولين كانوا يتناولونه نيئًا بعد تجفيفه، حيث يُعتبر جاهزًا للأكل نظرًا لأن عملية التجفيف تكسبه نكهة خاصة وتحافظ على صلاحيته، وقد ذكر لي بعض كبار السن أيضًا أن اختيار اللحم المناسب كان أمرًا أساسيًا لضمان نجاح هذه الطريقة، حيث كانوا يفضلون لحم الغنم قليل الشحوم، مؤكدين أن الدهون تؤخر عملية التجفيف وقد تؤثر على جودة اللحم عند التخزين. والغريب أنه لم تُسجل محاولات كثيرة لتجفيف لحوم الجمال أو الطيور، وربما كان ذلك لصعوبة التجفيف أو اختلاف الطعم، وهو أمر أعتقد أنه يستحق مزيدًا من البحث لفهم أسبابه، ومن المؤكد أن القفر لم يكن مجرد وسيلة لحفظ الطعام، بل جزءًا من ثقافة غذائية عريقة تعكس براعة الأجداد وحسن تدبيرهم في مواجهة تحديات الحياة، ولعل أبرز ما يميز القفر هو طابعه التراثي ونكهته الفريدة، التي جعلته مرتبطًا بالأطباق التقليدية مثل المرقوق والقرصان، ليصبح رمزًا للابتكار والاستدامة، ورغم تطور تقنيات حفظ الطعام في العصر الحديث، ما يزال القفر حاضرًا في ذاكرة المجتمع السعودي، كجزء لا يُنسى من تراث الطهي الذي يجمع بين أصالة الماضي وحنين الذكريات، حيث يحكي قصص الأجداد ومعاناتهم وابتكاراتهم التي استمرت عبر الأجيال. عبدالعزيز بن سليمان الحسين