القرية هي الحقل الخصب الذي تتناسل، منه الحكايات والروايات، لذا بقيت الحكاية سيدة المساء، والقرويون نساء ورجالا يبتهجون بالقصة لأنها تخفف من متاعبهم وتمسح بعض أحزانهم، وتزداد القصص إشعاعًا في المساءات التي تزدان الأرض بضوء القمر، وترقص مع خرير الجداول، وفي تلك اللحظات يمتزج الواقع بالخيال لتهفو الجدران والشعاب والأحجار والأشجار لتلك الحكايات التي تسردها الأمهات والجدات، حكايات اقتطفوها من شغاف قلوبهم وتحدثوا بشغف للوادي والمطر والسحاب والكادي والثمر والطيور يحكون وقت حصاد محاصيلهم الزراعية وحين يصطفون لأداء العرضة وحين يستقبلون الضيوف في الأعراس وحين وحين.. ولمّا كانت القصة بهذا الحسن والجمال فقد أغرتني لأن اقترب من محرابها قارئا شغوفًا ومتابعا متشوقًا وكنت في طفولتي استمع لحكايات ترويها أمي عن الجثام وهول الليل وبنت السلطان والسعلي وغيرها وحين تفرغ من حكايتها أبدأ في نسج الحكاية بطريقتي حين أطوح رأسي على المخدة لأسرح في فضاءات أحلامي، لذا بقيت القصة هي الكائن السحري الذي جذبني إليه وتركني أسيرًا في متاهاته لتكون لي محاولات بسيطة وأنا طالب في جامعة الملك عبدالعزيز لأنسج قصة قصيرة، كانت متمردة وعسيرة إلا إنني اصطلحت معها وتوددت إليها لتكون الانطلاقة الأولى بعد أن نشرتها صحيفة الجزيرة، ورغم أن الباب كان مشرعا للاستمرار إلا إنني كلما حاولت الاقتراب منها لسعتني بلهيب جمرها وبقيت أغازلها لعلي أتمكن الاقتراب من محرابها، كانت فترة مهمة لأن أقرأ كثيرا لعدد من الكتاب من داخل المملكة ومن مصر ومن بينهم مصطفى لطفي المنفلوطي ونجيب محفوظ ويوسف إدريس وعبدالعزيز مشري وإبراهيم الناصر وغيرهم وبعد عودتي بسنوات إلى الباحة أحمل في ذاكرتي جمال القرية وتلك الحكايات لأصدر مجموعة القصصية الأولى واسميتها «فضة» وأعترف بأن الاسم اخترته مراوغة ويمكن اختار اسم شريفه أو صالحة أو عزة أو فاطمة إلا أن ثقافة المجتمع القروي جعلتني أبتعد عن اسم المتداول، احتوت المجموعة على تسع عشرة قصة وهي تجربتي الأولى التي افتخر بها، وانجذبت إلى الإعلام حيث عملت مراسلا لعدد من الصحف في الباحة (الرياض، البلاد، الجزيرة، الوطن) وبقيت القصة كعروس فارهة الجمال راسخة في ذاكرتي وهنا لابد من الاقتراب منها والتودد إليها لتكون مجموعي القصصية الثانية التي سميتها «عناق» ولمّا كانت القرية هي الأغنية الأجمل والوردة الأحلى والقمر الأزهى بل هي عذق الكادي الذي يملأ المكان أريجًا أخاذًا فإن «سطور سروية» هي المجموعة التي عبَّرت عن شيء في ذاتي، وجاءت القصة القصيرة جدا تشع كضوء قمر فإنني استعذبت هذا الجنس الأدبي الذي يرتكز على اقتصاد اللغة والمجاز والمفارقة لأصدر مجموعتين في فترتين متفاوتتين هما «بوارق» و»وميض الرماد» والأخيرة حفلت بشيئين حيث ترُجمت إلى اللغة الإنجليزية وحصلت على جائزة الإبداع الأدبي في منطقة الباحة، والقرية ملأت إحاسيسي ووجداني ولم استطع الانفكاك من جمالها لأكتب عن مشاهداتي في كتاب سميته على «ضفاف وادي قوب» هذا الوادي الذي يتلدن بين جبال السراة كعقد فضي كان سببا في استقرار السكان حول ضفافه حيث أقاموا مدرجاتهم الزراعية وزرعوا محاصيلهم لتتحول سفوح الجبال إلى مساحات خضراء تضج بسنابل الحنطة وأكواز الذرة.. الحكايات التي سمعتها وتشربتها تتقافز من ذاكرتي لأكتب رواية تحت عنوان «أنين الجبل» ليتبعها مجموعة بعنوان «طيف» ينبثق من حشاشة الجبل الذي يحمي القرى المحيطة بهيبته وقامته وشموخه، انبثق لحنًا جميلا يطلق عليه طرق الجبل، ولمّا كان القروي يموسق حباله الصوتية بتغيير درجات صوته ارتفاعا وانخفاضًا ترخيمًا وتطريبًا فإن ذلك غرس في وجداني عشقا للجبل لتكون مجموعتي الجديدة «شدو الجبل» وكنت قد رصدت شيئا مما استطيع تذكره في كتاب سميته «أوراق الريح والمطر» كسيرة ذاتية. وهنا أعترف انني لم أصل بعد إلى القصة التي أرجوها. وتظل تجربة خاصة... بوح: إلى قريتي السروية، التي تهجيت في وجهها أحرفي وكلماتي، ودسست في مخابئها أسراري، واستللت من عيدان عرعرها مراسمي، لأكتب في سطور دفتري عن صوت محالتها، وأزهارها، ولوزها، وترانيم نايها، وشدو شاعرها، وشفيف جداولها، وبريق ثغرها، لأنسج الذكريات أقماراً وأشجاراً وأفراحاً وأحزاناً، إليك يا قريتي أهدي نبض وجداني..