بعيدًا عن التأثير السياسي والاقتصادي للانتخابات الأميركية، ما أزال أرى أن تأثير "القيم الأميركية" على شعوب العالم هو التأثير الأخطر لأنه يُحدث تغيرًا عميقًا في البنية الأخلاقية للشعوب والأفراد، ومخاطر هذا التغيير لا تتوقف عند "الذوبان الثقافي" فقط، لأنه يعمل على المدى الطويل على تجفيف منابع الانتماء ويفكك ارتباط البشر بمنظومة أخلاقية يفترض أن تشكّل هويتهم.. قد يرى البعض أن هذا السؤال بدهي والإجابة عنه لا تحتاج إلى الكثير من الجهد، فالولاياتالمتحدة دولة مؤثرة اقتصاديا وسياسيا وعسكريا، وقرارات إداراتها المتلاحقة تؤثر على العالم وتشكل خارطته سواء أراد هذا العالم ذلك أو لم يرد، فحتى الآن لا توجد دولة تنافس أميركا في توجبه القرارات الأممية، وهذا يعني أن من سيقود هذه الدولة سيكون له تأثير كبير في تحديد ملامح العالم في السنوات الأربع القادمة. على المستوى الشخصي أصبحت متابعا لهذه الانتخابات بعد حرب الكويت مباشرة وتفاجأت بخسارة الرئيس "جورج بوش" الأب الذي قاد انتصارا عسكريا للتو، لأن عقلية "البطل" المنتصر في الثقافة العربية مقترنة بعمق بالقيادة، وهذه العقلية التي لا تزال تقود العالم العربي، حتى اليوم، إلى الهاوية تهيمن بشكل كبير على تحديد مفهوم من يجب أن يكون قائدا. أذكر أنني قلت للزملاء، في ذلك الوقت، وقد كنا في مقتبل العمر: لو أن عقل الناخب الأميركي بمواصفات عربية لانتصر "بوش" انتصارا ساحقا. منذ ذلك الوقت صرت أفكر في ماذا يريد الأميركيون من القائد الذي سيدير بلادهم، ووجدت أن "الاقتصاد" و"الأمن" يأتيان في المرتبة الأولى، وأن السياسة الخارجية تأتي في آخر سلم أولويات الناخب الأميركي. أعترف أنني كنت أميل إلى الرئيس "دونالد ترمب" في انتخابات 2020م لكنني صرت أميل له أكثر في انتخابات هذا العام التي فاز بها فوزا ساحقا، وسبب هذا الميول هو "الوضوح" والتركيز على القواعد الأخلاقية التي بدأ يفقدها الأميركيون، وهذا الرجل يمكن أن يستعيدها. إحدى الميزات التي كان يفتخر بها المجتمع الأميركي هي "الأخلاق الأميركية" American Morlas وأنا أسميها "المروءة الأميركية" والتي، للأسف، تراجعت بشكل كبير خصوصا في عهود الحزب الديمقراطي الذي يشجع المثلية والاجهاض اللذين ساهما ويساهمان في تفكيك الأسرة والمجتمع. ولكن ما شأني بالذي يؤمن به الأميركيون وما علاقتنا به؟ هنا بيت القصيد فتأثير أميركا الأخلاقي والقيمي على العالم أكبر من تأثيرها السياسي، وهنا المشكلة، فعندما شرّع الأميركيون زواج المثليين بدأت دول كثيرة تحذو حذوها، أصبح التفاخر بالشذوذ علنيا. تأثير "الأخلاق الأميركية" على مجتمعات العالم ليس بجديد، فما تشرّعه أميركا ويقبله المجتمع الأميركي يفترض أن تقبله كل شعوب العالم، وهنا تكمن الخطورة. سر هذا التأثير يكمن في الحوار الذي ظهر في مطلع هذه الألفية حول "العولمة" التي أطلق عليها البعض "الأمركة" كون الولاياتالمتحدة هي الدولة الوحيدة القادرة على تسويق قيمها لكل شعوب العالم. بالتأكيد أن هذا التأثير والحضور الطاغي للقيم الأميركية موجود قبل حوار العولمة لكن الانتقال إلى تسليع هذه القيم وتحويلها إلى منتجات مرئية ومسموعة وربطها بوسائل التواصل الاجتماعي جعل من هذه القيم، بخيرها وشرها، النموذج الذي يحتذى في العالم والتي لا تستطيع أي قيم أخرى أن تنافسها. هنا تتجسد أهمية من سيقود أميركا في الفترة القادمة، فقيادة "ترمب" تمثّل فاصلا مهما للمد غير الأخلاقي الذي هيمن على "المروءة الأميركية" وحولها إلى بوق تحث على إشاعة "الفحشاء" بين الناس، وهذا الفاصل لا يعني نهاية الحرب، على كل حال، لكنه سيقدم للعالم نموذجا فكريا وأخلاقيا، كما نتصور، يعيدهم إلى جادة الفطرة السليمة. بالنسبة لنا، كعرب ومسلمين، نتمنى أن يكون الرئيس المنتخب نصيرا للقضايا العربية وداعما لحل الدولتين في فلسطين، وإن كانت جميع التجارب الانتخابية السابقة لم تحقق هذا الهدف، لكن هذا المقال لا يركز على هذه الجوانب السياسية المهمة. لأن كل التوقعات التي قرأتها للانتخابات الأميركية وتأثيرها على حل القضية الفلسطينية لم تؤدِ إلى شيء إلى درجة أنني صرت مؤمنا أن الحديث حول هذا الموضوع هو مجرد "عبث"، فالقضايا الشائكة يحلّها المتأثرون بها مباشرة والتي تشكل لهم معاناة يومية. لكن الأمر لا يخلو من الميل لإدارة دون أخرى لوجود مجال أوسع للتفاوض وبناء مصالح مشتركة معها. التأثير الأميركي السياسي على العالم عميق لكن يبدو أن العرب والمسلمين لم يكسبوا من هذا التأثير حتى الآن، ولم يصلوا بعد إلى "المفاتيح" التي تجعلهم يوظفون هذا التأثير لخدمة قضاياهم. من خلال متابعتي لوسائل التواصل الاجتماعي وجدت أن رجل الشارع العربي لا يحمل أي بصيص أمل في أن تدعم أي إدارة أميركية القضايا العربية، ودون شك أن هذه القناعة لم تكن وليدة اللحظة بل عن تجربة طويلة مع تعاقب الإدارات الأميركية خلال أكثر من سبعة عقود. بعيدا عن التأثير السياسي والاقتصادي للانتخابات الأميركية، لا أزال أرى أن تأثير "القيم الأميركية" على شعوب العالم هو التأثير الأخطر لأنه يُحدث تغيرا عميقا في البنية الأخلاقية للشعوب والأفراد، ومخاطر هذا التغيير لا تتوقف عند "الذوبان الثقافي" فقط، لأنه يعمل على المدى الطويل على تجفيف منابع الانتماء ويفكك ارتباط البشر بمنظومة أخلاقية يفترض أن تشكل هويتهم. هذا التأثير الذي يعتبره كثير من علماء الاجتماع والباحثين في علم الأخلاق، تأثيرا بطيئا وطويل الأمد هو في الواقع يتسلل إلى "العقل الأخلاقي" ويحدث خللا عميقا في الارتباط بالجذور ويدمر النواة الأخلاقية التي تميز كل مجتمع على وجه الأرض.