الدين والسياسة في اميركا، كتاب للدكتور محمد عارف ذكاء الله، يرصد صعود المسيحيين الإنجيليين في الولاياتالمتحدة الأميركية، وأثرهم في سياستها الخارجية، والداخلية، ودورهم في أوساط الرأي العام المحلي وتأثيرهم في صوغ توجهاته. يحمل الكتاب الذي نشره مركز الزيتونة - بيروت، دعوة صريحة الى التعرف على آليات إنتاج السلطة في المجتمع الأميركي، ويدعو في الوقت عينه الى ضرورة اعادة اكتشاف هذا المجتمع وفهمه بطريقة علمية صحيحة، بعيدة من الانفعال، ومن ردود الفعل، التي تنتج في الغالب، سياسات غير صائبة. في ميدان التعريف، والتعرّف، يتجه"الكاتب"الى شيء من التاريخ ليعيد التعريف بأصل نشأة"الأصولية المسيحية الأميركية"، وليلقي الضوء على مراحل تطورها، بدءاً من النشأة الأولى، وحتى عشية انتخابات الكونغرس والمجلس النيابي عام 2006، مع ما يتوسط ذلك من محطات مهمة، فكرياً وسياسياً، على امتداد القرن العشرين. يرجع بنا، محمد عارف زكاء الله، الى اسم مكتشف القارة الأميركية، كريستوف كولومبوس الذي يعني"حامل المسيح"، وإلى هجرة"لبيوريتانيين التطهريين من بريطانيا"الى العالم الجديد، الذين أطلقوا على"هجرتهم اسم الحج"وأقاموا مستعمرة بلايموث، في طريقهم الى جعل"اميركا مدينة مشعة فوق التلة"، وفي استحقاق امتها لقب وصفات"أمة المخلّص". لا يفوت الكاتب الالتفات الى دوافع الهجرة الأوروبية، السياسية والاقتصادية، وذلك كدحض"رقيق"لادعاءات"التبشير والخلاص"التي حملها اولئك الفارون بأنفسهم من جحيم الحروب الدينية، التي كانت أوروبا مسرحاً لها طوال عقود من الأعوام، كذلك كانت الضائقة الاقتصادية عاملاً آخر من عوامل الهروب من بلد ضاقت مساحاته الزراعية بعد التغيير البنيوي في الزراعة والتحول الى تربية الماشية الى بلاد جديدة، تفتح ذراعي اراضيها للاغتصاب المنظم القادم، مغلفاً بأغلفة دينية وبتبريرات إنجيلية منتقاة"من المزامير ومن الكتاب المقدس". هكذا يعلمنا"الكاتب"ان للهجرة أصولها الاجتماعية السياسية والاقتصادية، وأن ما قام به"المستوطنون"لاحقاً يسقط الكثير من دعاوى التطهر ويعيد الاعتبار الى الوقائع المادية المباشرة التي كانت كامنة خلف النظرات الدينية والإيديولوجية. لقد كان معبراً ان يتعلم الوافدون الجدد من الذين"سموهم هنوداً"أي سكان البلاد الأصليين، ثم يعمدون الى الغدر بهم، والفتك بقبائلهم من خلال الحروب المتتالية، ومن خلال حملات التجويع والترحيل وإشاعة الأوبئة بين صفوفهم... واعتبار ذلك من بعض اثمان"الأضرار الجانبية للحضارة"على حد ما لاحظ كتّاب آخرون، أرّخوا لحقبة التأسيس الأميركية. اصل النشأة المتزمت هذا، تعرض لتحديات فكرية، مع انتشار النزعة العقلية، ومع شيوع معطيات العلم، ومع تقدم فلسفة التنوير في أوروبا، شيئاً فشيئاً وجدت الحركة الأصولية المسيحية الأولى نفسها في مواجهة تحديات لم تستطع التغلب عليها"بالتبريرات المحافظة"، بل كان لزاماً عليها الاستجابة لها، بإحداث تغيرات في بنيتها وفي أساليب عملها، وفي طريقة تقديم نظرتها ونظرياتها، لذلك"انقسمت البروتستانتية المحلية"هذه، وشهدت الولاياتالمتحدة الأميركية ولادة الأصولية المسيحية المعاصرة. كان للأمر هذا اساسه الاقتصادي ايضاً الذي تمثل بازدهار المدن وتزايد أعداد سكانها، وبعملية التصنيع، وبزيادة التفاوت الاجتماعي بين مختلف شرائح المجتمع الأميركي. هذه الملاحظة تكتسب اهميتها، لأنها ستكون حاضرة في كل مفصل من مفاصل انتقال"الأصولية المسيحية"، وسيكون لكل"نسخة اصولية"دوافعها الاقتصادية، التي تشكل مرتكزات"قاعدة بنائها التحتي"مما يشكك، على طول خط التحليل بنزاهة المقاصد"التبشيرية"التي يلجأ إليها منظرو هذه الأصولية، وبما ينال من صدقية حرصهم على"اخلاقية المجتمع"ودفعهم"الدولة الليبرالية الى إصلاح ما احدثته ليبراليتها من اضرار"... أي ان"إصلاحيي المسيحية الأصولية"ليسوا في موقع المراقب المحايد الذي لا يهتم إلا بأمور الإصلاح المجتمعية، ويكتفي بالإشارة الى سبل الوصول إليها، بل انهم على العكس من ذلك، دعاة انخراط في السياسة، واصحاب وجهة سياسية واقتصادية، تحاول فرض سيطرتها من خلال قنوات الدولة، بترويض مؤسساتها، وبإخضاع مراجعها التنفيذية والتشريعية الى ضغط رأي عام شعبي، تجهد"الأصولية المسيحية"لجعله يتعاظم باستمرار... هكذا نفهم انتقال"الأصولية"من الاستنكاف الأولي عن العمل في المجال السياسي الى بدء مغادرة هذا الاستنكاف بعيد الحرب العالمية الثانية. انشغلت الأصولية المسيحية إبان هذه الفترة"بالتعليم وبالتنظيم لجذب الأجيال"واهتمت"بالتلفزيون والإذاعة وبالبرامج الدينية، فكان لها ما يقارب 13.3 مليون متابع دائم للبث الديني في مراحل لاحقة. الى ذلك نظم"الأصوليون"احتفالات عدة بالنصر، مما مكّن لهم احتلال"مكانة اخلاقية ووطنية رفيعة"فصارت"الأصولية مرادفة للوطنية"وبات الأصوليون الذين حذروا من الشيوعية"التي قررت ان تكون ضد الله وضد المسيح والإنجيل والدين"، بات هؤلاء"مدافعين اوائل عن اميركا الرأسمالية والشيوعية". هذه"الخميرة التراكمية"كان لها كسبها اللاحق، في"السنوات العاصفة"التي غطت عقدي الستينات والسبعينات، خصوصاً بعد حرب فيتنام وما أعقبها من فساد اجتماعي وسياسي، ومن شعور رافق الأصوليين، بتداعي الأسس الأخلاقية للمجتمع. لقد أدركت الأصولية ضرورة التحرك من اجل ايصال الرؤساء المناسبين الى البيت الأبيض. لقد ساهم الصوت الإنجيلي في إيصال ثلاثة رؤساء الى البيت الأبيض، لكن الأجندة الأصولية لم تكن دائماً متطابقة مع الأجندات الرئاسية، كان من شأن ذلك ان يعيد لفت الانتباه الى"السياسي"المضمر في كل تحالف، وإلى الأولويات الاقتصادية، وإلى وزن مصالح الشركات، التي تظل لها"الكلمة الفصل"في قيادة السفينة الأميركية. لقد خلّف"النكوث بالعهود"إحباطات لدى"الحركة الأصولية"مما دفعها إلى اعتماد أساليب إرهابية وإلى"التبشير"بالدعوة الى الكراهية، بدل فلسفة المحبة التي تشكل ركناً اساسياً من اركان المسيحية. هكذا أمكن لتيري راندال، ان يقول بأن الكراهية شيء جيد، وأن يرفض المساواة والتعددية..."، كذلك أمكن"لمايكل براي قائد جيش الرب ان يبرر الإرهاب انجيلياً"!!... شكل ما تقدم عينات من"الانتقالات السياسية"للأصولية المسيحية، وفي الطريق الى كل انتقال كان ثمة تنظيمات ومؤسسات ومفاهيم ومنظرون، أي كان ثمة عملية تفاعل وتقويم مستمرين، لكيفية اختراق مراكز القرار وتثبيت النفوذ، انطلاقاً من معرفة كيفية عمل كل مؤسسة بعينها، هكذا فهم دور كل رئيس اميركي في صناعة القرار، كذلك التقط"سر عمل رجل الكونغرس"الذي يضع نصب عينيه"رضى الناخب قبل ان يهتم لأمر ما هو الصح وما هو الخطأ في مضمون أي قرار محلي او خارجي. بعد هذا العرض المسهب، الذي قدمه"الكتاب"لمسيرة الأصولية الأميركية، كان لا بد له ان يقف امام تأثير السياسات التي تدفع بها الآراء الأصولية على العالمين الإسلامي والعربي، إذ ليس هيناً ان تكون"اسرائيل من ثوابت السياسة اليمينية الأميركية"المتحالفة مع الأصولية في إطار اليمين الجديد، ذي الأصولية الاقتصادية، مثلما ليس بسيطاً ملاحظة ان"اميركا تنزاح يميناً، بغض النظر عن الحزب الحاكم فيها"، وليس بلا اثر وجود من يقول:"بمعركة هرمجدون التي تبشر بقدوم المسيح، الثاني"مما يفترض بقاء اسرائيل قوية ومنتصرة، لأنها"من العوامل المسرعة لهذه العودة"!! في مجال اعادة"ترتيب البيت الداخلي"يرى"الكاتب"انه لا بد من فهم سياسات الأصولية الجديدة، خصوصاً ان الإنجيليين باتوا يشكلون 25 في المئة من اصل تعداد السكان الأميركيين"، كذلك لا بديل من فهم آلية صنع القرار الأميركي، ومتابعة المتغيرات المحيطة به"حتى لا يؤدي جهلنا بهذه المتغيرات الى مزيد من المشاكل غير الضرورية". ثمة تعويل كبير، وتفاؤل"مفرط"احياناً، عندما ينسب"الكاتب"الى النخب الأميركية رغبتها في المساعدة في التأثير في الرأي العام عندما تتفهم وجهة نظرنا"المبنية على حقائق علمية وغير انفعالية"، وثمة رهان"مغامر"يقرب من الطوباوية، عندما يقرر"الكاتب"ان اقتناع الرأي العام بقضايانا كفيل باستجابة الحكام لهذه القناعة، ومن ثم العمل بمقتضاها. هناك حاجة ملحة في هذا المجال الى رؤية المصالح الأصلية التي يتكفل"النسق الرسمي الحاكم"بتسويغها للجمهور في قوالب متعددة، مثلما هناك ضرورة لرؤية الآليات الديموقراطية التي تؤمن هذه المصالح، من زاوية"ديموقراطيتها"فعلاً، عندما يتعلق الأمر"بالخارج"، إذ كثيراً ما تتناقض"ديموقراطية الداخل"مع منطلقاتها عندما يتعلق الأمر بالشعوب الأخرى، وقليلاً ما تتحرك الحساسية الإنسانية"الأممية"بعيداً من ثقل الانشغالات المحلية وضرورات"الخلاص الفردي". لا يفيد في هذا المجال كثيراً الانتقال من مصطلح الى آخر. فاقتراح الكاتب قيام"ديموقراطية التحرير"يظل قاصراً من دون بلوغ الديموقراطية المطلوبة في العالمين الإسلامي والعربي، لأنه ربطها بقيود ثقيلة مسبقاً، تعيق حركة"البحث المستقلة"غير الخاضعة لتأثيرات المؤسسات الحاكمة ولبناها الإيديولوجية الموروثة. يبقى ان الإصلاح الذي يلح عليه الكاتب، مطلوب، والتخلص من نظرية"المؤامرة الغربية"ضروري، والديموقراطية التي تطلق مقدرات الشعوب وتنظم تفاعلها الخلاق، طريق خلاص، لعل في كل ذلك ما يعوض شيئاً من"الفوات الحضاري"الذي جعل الغرب يسبقنا بمسافة"سنين ضوئية".