أكبر حالة سوء فهم يمكن ان تلحق بالإنسان اليوم هي ان يُصنف ليبرالياً. الليبرالية في الولاياتالمتحدة أصبحت تعني في نظر الكثير من الناس التشكيك في القيم الأسرية ومساندة الإجهاض وزواج المثليين. والليبرالية في اوروبا يفهم منها مساندة برامج خصخصة المنشآت العامة ورفع الدعم عن الخدمات الصحية. اما في العالم العربي فيمكن ان تجلب على الليبرالي التهتمين الأخطر: خيانة الوطن والمروق عن القيم الدينية. على ان العالم العربي هو بالتأكيد الفضاء الاكثر حساسية ومقاومة تجاه الليبرالية، والقضية لم تبدأ مع حرب العراق ولن تنتهي يوم تخلصه من الاحتلال الاميركي. قد نفترض ان هذا التبرم شبه الفطري بكلمة ليبرالية سببه ارتباطها بمرجعيتين غربيتين، هما الثورة الانكليزية والثورة الفرنسية، لكن الفكرة القومية نشأت ايضا في الغرب: في المانيا بسمارك وايطاليا فيكتور عمانوئيل الثاني، فهي ايضا فكرة ذات مرجعية غربية، وعبثا تبحث عن "قومية" في "لسان العرب" و"القاموس المحيط" وفي أي كتاب كتب قبل القرن العشرين. أو قد نفترض ان السبب ارتباط كلمة ليبرالية بالعولمة ووقائعها ونتائجها، لكن العولمة قد فرضت نفسها بسبب تطور التقنية وليس بسبب انتصار تيار فلسفي او سياسي، والتيار العالمي المناهض للعولمة يتكون أساساً من ممثلي المجتمعات المدنية وجمعيات حقوق الانسان، أي من الناس الذين تُطلق عليهم في التصنيف العربي تسمية الليبراليين. او قد نفترض ان كلمة ليبرالية تتضمن معنى التحدي للقيم الاكثر تجذرا في المجتمع، لكن الليبرالية العربية لم تطرح قضايا اخلاقية من نوع الانجاب خارج إطار الزواج او تعاشر المثليين وغير ذلك من القضايا المطروحة في الغرب، بل اقتصرت على الجوانب السياسية والثقافية ولم تتجاوزها. او قد نفترض ان الليبرالية تختلط بمساندة المشاريع الاميركية في الشرق الاوسط، لكننا اذا دققنا النظر نرى ان البلدان التي كانت اكثر دعما للسياسة الاميركية في افغانستانوالعراق هي ايران وتركيا وباكستان، وهي بلدان تديرها حالياً حكومات نشأت في صلب الحركة الاسلامية التي تفترض ان الاختلافات القومية لا اثر لها في المواقف من القضايا الاساسية. وتوجد تهم اخرى اكثر سخفا: عندما قامت الأنظمة الثورية ابتداء من منتصف القرن العشرين، وجهت الى الليبرالية تهمتي الفساد المالي والعجز عن مقاومة التوسع الصهيوني. الا ان مواصلة التلويح بهاتين التهمتين بعد نصف قرن من السيطرة الثوروية العربية تصبح مثيرة للشفقة، بالنظر الى الوضع الذي آل إليه العالم العربي منذ ذلك الحين. لا شك ان الاتهام الأخطر والأشد وقعاً في نفوس الناس هو الربط بين الليبرالية والتبعية للغرب. مع ان التيار الليبرالي نشأ قبل القومية والأصولية وكان السبّاق في محاولة الاصلاح الداخلي والتصدي لتحديات الرأسمالية. وقد اختارت الثقافة الرسمية في فترة لاحقة أن تلغي كلمة ليبرالية وتستبدلها بكلمة إصلاح، أو نهضة، كي تُفقد الفترة من 1798 الى ثلاثينات القرن العشرين طابعها الليبرالي. وليس صدفة ان احد المراجع المشهورة حول تاريخ الفترة، وهو كتاب المؤرخ ألبرت حوراني، ترجم الى العربية بعنوان "الفكر العربي في عصر النهضة" مع ان عنوانه الاصلي بالانكليزية "الفكر العربي في العصر الليبرالي". فالفارق شاسع بين الجبرتي الذي اقترب من معسكر بونابرت ليفهم الحضارة الغازية ويسجل ملاحظاته للأجيال القادمة، وبين حفنة الكتاب الذين استأجرهم القائد الفرنسي ليكتبوا له الرسائل المسجوعة الموقعة باسم عبدالله نابليون بونابرت مخلص الاسلام من المماليك. او بين الطهطاوي الذي نقل لمواطنيه وقائع الحضارة الجديدة في "تخليص الابريز"، وبين المصري الخائن الذي ذكر انه التقى به في مرسيليا. او بين خير الدين باشا الذي سطّر لتونس برنامجاً اصلاحياً استقاه من الفكر الليبرالي الاوروبي في عصره،وبين مواطنه محمود بن عياد الذي استغل الاوضاع المهترئة ليهرب بخزينة الدولة محتمياً بالفرنسيين. وهكذا نميز اليوم بين الذي يدعون الى افكار ليبرالية تهيء المجتمعات العربية للنهوض من كبوتها والذين يستعملون الليبرالية، كما يستعملون لافتات كثيرة، لتحقيق فوائد شخصية لا علاقة لها بقضايا شعوبهم. ولعل الكثير من الحركات الرائدة في التاريخ تعيش مفارقة عجيبة، فالذي يستبق الوعي السائد ويحذر من وقع الخطر المحدق قبل ان ينجلي يرتبط اسمه بهذا الخطر ثم يتحمل لاحقاً مسؤولية وقوعه. والتيار الليبرالي الكلاسيكي لم يهيء للاستعمار بل حذر منه واقترح المبادرة بالإصلاح تحسباً من وخيم العواقب. ولطالما كرر الليبراليون الأوائل ان تيار المدنية جارف ومن لم يحذ حذوه أدركه الغرق. لكن المواقف المحافظة تلكأت في الاصلاح أو عارضته وأضاعت وقتاً ثميناً في النقاش حول أحكامه من منظور الفقهاء والكلاميين، وهل تكون مصطلحاته تراثية أم حداثية، وضاع جهد الليبراليين انفسهم في البحث عن مناهج التأصيل تنصلا من تهمة التكفير بدل التعمق في فهم وقائع الحضارة الجديدة وتطوراتها المتلاحقة. وعلى هذا النحو يتعين اليوم تذكير أصحاب الذاكرة القصيرة ان التيار الليبرالي الجديد الذي برز مع نهاية الثمانينات لم يفتأ يحذر من عواقب المغامرات الصدامية وتحولها ذريعة للولايات المتحدة للسيطرة المباشرة على المنطقة، ومن عواقب العسكرة المفرطة للانتفاضة الفلسطينية التي تهمّش المقاومة الشعبية البطولية وتحول رمزية الصراع وقيادته الى الحركات الراديكالية، لكنهم ووجهوا بالرد ان ملّة الكفر أميركا واسرئيل، المحافظون الجدد والليبراليون، اليمين واليسار، الجمهوريون والديموقراطيون، شارون وبيلين كلهم شيء واحد. وفي محاولة جديدة تقوم بها الثقافة السائدة قصد الالتفاف وخلط الأوراق والمزيد من تكريس سوء الفهم، انتشرت منذ اشهر عبارة جذابة لكنها مضللة: "بيدي او بيد عمرو". وأصبحت هذه العبارة مدخلا لمناقشة المسألة وكأن الحكم القديمة التي ابتدها الشعراء يمكن ان تكون مفيدة في استيعاب تعقيدات العالم الحديث. لنتأمل القوة التضليلية التي تحتويها هذه العبارة، فهي توحي ان الناس جميعاً متفقون حول الاصلاح، وحول كيفياته ومضامينه وغاياته، ولم يبق الا موضوع واحد للنقاش هو ان نحدد الجهة التي نعهد اليها بتنفيذه، هل هي جهة داخلية ام خارجية. كان قصد من اطلقها في البداية ان يقول اننا اذا لم نبادر بالتغيير فسيفرض علينا، لكنها اصبحت تعني شيئاً فشيئاً ان الساحة العربية منقسمة قسمين، قسماً يدعو الى التغيير من الداخل وقسماً يدعو الى التغيير من الخارج، والقسم الأول يضم القوميين والأصوليين والثاني الليبراليين! غني عن البيان ان الصورة اعمق من هذا بكثير. لكن خطر هذه العبارة يتضح خاصة في انها تدفع الى الخلط حول جوانب ثلاثة أساسية. الجانب الأول انها تواصل وهم التقابل الجوهري بين ضمير المتكلم وعمرو هذا، وكلاهما طرف غير محدد المعالم. ان العالم الصناعي قد فرض قدراً كبيراً من التداخل بين المجموعات البشرية، وقد أصبحت كلها تشترك في التكنولوجيا التي ابتدعها عمرو ولا يمكن ان تعيش دونها. فلم يعد ممكنا اقتسام العالم الحديث كما كان يقتسم الماء والكلأ، بل تفرض الطبيعة التكنولوجية لهذا العالم ان يحصل الاشتراك في أمور كثيرة، ويحول اختلال موازين القوى دون العدل بين الأطراف المتشاركة، وتصبح قضية الطرف الضعيف أن يجد أفضل السبل في تقوية حصته دون ان يترك الفرصة للأقوياء بابتلاعه، وان يعمل على مضاعفة قوته لمزيد من تعديل موازين القوى لصالحه. اما التقابل الجوهري بين زيد وعمرو فهو يكرس وهم إمكانية الرجوع الى العالم ما قبل الصناعي حيث كان يمكن ان تتجاوز مجموعات بشرية عدة قرون دون ان تترك بين بعضها البعض تأثيرات عميقة. المغالطة الثانية أنها تفترض "يدنا" يداً واحدة ورأينا رأياً واحداً، وهذا مستحيل. القوة لا تأتي بالتوحد ولكن باحترام الاختلاف. لا يمكن ان نجد مقياساً مشتركاً نحل به اللغز الأكبر: هل أن سبيل التقدم وتحقيق القوة مزيد الاندماج في العالم الحديث أم مزيد من التوقّي منه؟ سوف يتواصل النزاع في الفكر العربي بين التيارين الرئيسيين اللذين يقتسمان الجواب عن هذا السؤال منذ قرنين. المطلوب ان يحاصر كل تيار الفئات الطفيلية التي تتعلق به، أي الانتهازية في التيار الليبرالي والعنف في التيار المقابل. لا توجد أسباب موضوعية تجبر الجواب الليبرالي ان يكون محترسا يفصح عن نفسه مكبّلاً بعقد التخوين، لأن فشل تجابه السابقة كان أقل وقعاً وأخف خطراً من فشل تجارب الطرف المقابل. ولا توجد ليبرالية واحدة بل ليبراليات تطورت مع التجارب التي نشأت في القرن التاسع عشر وتأثرت بالنظريات السياسية والاقتصادية الشائعة في فرنسا وانكلترا آنذاك، وقد دعت الى المسارعة بإصلاح الأوضاع قبل ان تنهار المجتمعات العربية والإسلامية أمام القوى الأوروبية الغازية، وتركت هذه الليبرالية مكاسب ليس أقلها المحاولات الأولى للتحديث وفكرة الدستور وبداية التنظيم السياسي والاداري على النمط الغربي. ثم كانت الليبرالية الأريستوقراطية، وقد مثلتها فئة من ملاك الاراضي ممن كان لهم سبق إرسال أبنائهم الى المدارس الاوروبية فرأوا ان أفضل طريقة للمحافظة على مواقعهم الاجتماعية البحث عن صيغ تعايش بين الأوضاع المحلية والمتغيرات العالمية. وفي ظل هذه الليبرالية انتشرت بعض القيم والافكار الجديدة مثل التسامح والحوار والانتخابات والبرلمان وتشجيع دراسة اللغات الأجنبية والفكر الحديث ووضع النصوص الرائدة في الاصلاح القانوني والاداري. ثم مع فترة السبعينات بدأت تنتشر ليبرالية ثالثة يمكن ان نطلق عليها الليبرالية الحقوقية، وكان دعاتها في الغالب أناساً خاب أملهم في تجارب الحزب الواحد والأيديولوجيا السحرية التي ستحقق كل المكاسب بضربة لازب وادعاء امتلاك الحقيقة المطلقة. هذه الموجة الليبرالية الثالثة هيأت لانتشار جمعيات حقوق الانسان واصبحت فكرة هذه الحقوق وكونيتها مقبولة لدى قطاعات واسعة من الناس، بعد ان كانت متهمة في السابق بأنها مؤامرة غربية او حقوق صورية بورجوازية. وتوجد اليوم موجة ليبرالية رابعة تحاول أن تكون اكثر شمولية في تصوراتها وطروحاتها، رغم ما اشار اليه صالح بشير في مقال سابق من ان الذخيرة الفكرية لديها لا تزال بدائية، وهذا واقع لا مجال لإنكاره، لكنه قد يكون نقطة القوة. فلأول مرة نرى محاولات تفكير تقوم على الاختبار والمتابعة الميدانية للأحداث والجدل المفتوح دون عقد والتراجع العلني عن الرأي عند الاقتناع بغيره وتغليب شعور الشك على اطمئنان اليقين، ولأول مرة تغيب النصوص المرجعية التي لا تناقش والشخصيات الفكرية التي تتخذ هيئة الأنبياء، والتنظيمات الصلبة التي تحجّر الفكر وتلبّده. ولأول مرة يُضعف التفكير من منطق الزعامة وتصبح التعددية هي القاعدة. فلئن برزت في السنوات العشر الاخيرة عدة اقلام اصبحت رموزاً مُنظّرة لهذه الموجة فإنها لم تتحول الى زعامات فكرية على النمط التقليدي، في حين تجلى واضحاً عجز الزعامات الفكرية المشهورة عن متابعة المناقشات المطروحة في الساحة منذ زلزال التسعينات غزو الكويت الذي تزامن ونهاية الحرب الباردة، رغم مشاريعها الورقية الضخمة ووزنها في ميدان الاعلام والنشر وادعاءاتها الأكاديماوية المبالغ فيها. أخيراً، تتمثل المغالطة الثالثة لعبارة "بيدي او بيد عمرو" في انها تفترض "عمرو" ذاك كتلة واحدة. حسبنا ان نراجع التوجهات الاستراتيجية التي ظهرت في الادارة الاميركية في السنوات العشر الاخيرة لنرى ان المدعوّ عمرو لم يحدد نهائيا استراتيجيته في التعامل معنا، كما لم نحسم نحن استراتيجيتنا في التعامل معه. أولاً، تخوض الليبرالية في الولاياتالمتحدة صراعاً مفتوحاً مع اليمين الديني حول مسائل اجتماعية مثل الاجهاض وزواج المثليين، وهي مسائل تبدو غير ذات قيمة في نظر من يظن ان اميركا هي البنتاغون وحسب. والحال ان تلك المسائل في غاية الأهمية ويمكن ان تمثل رهانات أساسية في كل الانتخابات القادمة، رهانات أوزن من المواقف حول السياسة الدولية. ثانياً، يوجد في الخارجية الاميركية تيار قوي يُدعى بالتيار الواقعي، وهو يواصل منهج هنري كيسنجر وتعليمات عالم السياسة الشهير هانس مورغانتهو، ويرى ان الليبرالية الاميركية والغربية لئن كانت افضل النظم السياسية والاقتصادية فإنها تحاول عبثاً ان تصبح نظام الانسانية جمعاء. فهي عليها ان تتعايش مع الذين يدافعون عن ثقافات مختلفة وتتركهم وشأنهم يختارون الاستبداد واقتصاد الكفاف والأمية وغير ذلك مما يلائم ذهنياتهم، كما تعايشت الولاياتالمتحدة في السابق مع الشيوعية تفاديا لمواجهة مباشرة تنتهي بدمار شامل، وتركتها تنهار من تلقاء نفسها بعد عدة عقود. وتندرج نظرية صراع الحضارات لأستاذ السياسة الدولية صموئيل هنتنغتون في هذا الإطار. فهي تؤكد على ضرورة ان يحافظ الغرب على حضارته المتميزة في وجه الذين يهددونها، وليس ان يسعى الى فرضها على الآخرين بواسطة التهديد. ثالثاً، يتواصل حضور التيار الليبرالي الجديد الذي عرف عالميا بفضل كتاب فوكوياما "نهاية التاريخ"، والذي يفترض ان الليبرالية ستنتشر طوعاً في العالم لأن المجموعات البشرية ستتجه من تلقاء نفسها الى المطالبة بالاستفادة من مغانم الحداثة التقنية، وبعض اصحاب هذا التوجه يعتمدون الأدلة الاقتصادية، مثل روبرت بارو الذي رعى البنك الدولي دراساته ومحورها التأكيد، بواسطة الاحصائيات والوسائل الرياضية، على ان العالم متجه حتما نحو تعميم النظام الليبرالي في الاقتصاد والسياسة. رابعاً، يمثل المحافظون الجدد تيارا ليبراليا من نوع آخر، فيعتبرون ان من حق اميركا، بل من واجبها، ان تفرض الليبرالية ولو بالقوة ورغم ارادة الشعوب، زاعمين ان سياسة التغاضي قد أدت في السابق الى ثلاث مصائب هي الشيوعية والنازية وتفجيرات ايلول سبتمبر 2001. فلا يمكن حماية الحضارة الغربية من مصيبة جديدة قد تكون الحاسمة مثل عمليات ارهابية تستعمل السلاح النووي الا بفرض الليبرالية نظاماً اقتصادياً وسياسياً في العالم كله. واذا وسعنا مجال المراجعة لتشمل اوروبا والمؤسسات الدولية مثل الأممالمتحدة واليونسكو والهيئات غير الحكومية والتيارات الثقافية الجديدة ومختلف مراكز القوى المؤثرة في السياسة الدولية، سنحصل على توجهات اخرى كثير ونصل الى خريطة في غاية التعقيد، وسنقتنع بأن الخيارات جميعا ما زالت مفتوحة. وههنا يصبح ضروريا بل حتميا على المثقف العربي ان يعتمد ما دعاه حازم صاغيّة خطة اطلاق النار في الاتجاهين: اتجاه من يزعمون ان القيم الكونية لا مكان لها في العالم العربي، واتجاه من يزعمون ان الذهنيات يمكن ان تتغير بالعنف الصرف وسحق الإرادات الفردية. يلتقي حول الاتجاه الأول الخطاب العربي المحافظ الذي يدافع عن هذه المقولة باسم التميز الثقافي المطلق وخطاب الواقعية السياسية الغربية التي تسعى الى الاستفادة من ثروات العالم العربي الى ان تنفد ثم تتركه ينهار تلقائياً. ويلتقي حول الاتجاه الثاني المستفيدون من تطور الصناعات العسكرية الاميركية، سواء كانوا من جنسية أميركية أم عربية، ومن رجال الأعمال المشبوهة او من المثقفين الذين يزعمون ممارسة التنوير بتمويلات مريبة. ينبغى مواجهة الاتجاهين بدون عقد وبخطة يمكن ان نطلق عليها خطة "الاحتواء المزدوج"، كي لا يتم وأد التيار الفكري الجديد قبل ان يشتد عوده. اما الحساسية المزمنة للعالم العربي تجاه كلمة ليبرالية فإنها قد لا تكون بالغة الخطورة اذا كانت تعني مجرد التعبير عن الاختلاف بصفة نهائية وقاطعة. لكن أحداثاً كثيرة يمكن ان تُؤول لفائدة الاتجاه الليبرالي، كما قد تُؤول أحداث أخرى ضده، وسيكون الفيصل قوة الاحتجاج في نقاش مفتوح ومتخلص من سيف التخوين او التكفير. على ان هذا السيف المسلول لم يعد اليوم في مثل صرامته السابقة ووقعه الرهيب في الأذهان، خصوصاً أن تدويل القضايا السياسية العربية قد تبعه ايضاً تدويل هذا النقاش، ما يعني انه اصبح اليوم اكثر عسرا التخلص من الخصوم الفكريين بالترهيب والمحاصرة والاعدام. انما الخطر الحقيقي هو ان تعبر هذه الحساسية، في شكل مفرط وبدائي، عن انغلاق فكري امام قرنين من التاريخ، وحلم ساذج بأنه يمكن ان نعيش اليوم دون الاستفادة من مكتسبات الحضارة الجديدة، او نفكر في المستقبل دون استشراف مُثُل التنوير، وهي مُثُل الانسان الحديث، ومنها الديموقراطية وحقوق الانسان واحترام الفرد والحرية الفكرية وحق الاختلاف، بدعوى انها مُثُل الليبرالية الغربية. ولو شئنا ان نستشهد ببعض تلك الحكم القديمة قلنا إن ذلك أبعد من مناط الثريا.