خطاب الرئيس الأميركي جورج بوش عن "حال الاتحاد" عكس في شكل واضح التحول الذي طرأ على السياسة الخارجية الأميركية، أي الانتقال من البراغماتية الى ايديولوجية التغيير. فقد تحدث الرئيس بوش "عن أميركا الدولة ذات الرسالة النابعة من معتقداتنا الأساسية. أي أن تقود هذه الجمهورية العظيمة قضية الحرية" في جميع أنحاء العالم، خصوصاً في الشرق الأوسط، ما دام مكاناً للطغيان واليأس والغضب. فسيستمر في انجاب رجال وحركات يهددون سلامة أميركا وأصدقائنا. وعليه "فإن أميركا تسعى وراء استراتيجية تقدمية من الحرية في الشرق الأوسط الأكبر. إننا سنتحدى أعداء الاصلاح وسنواجه حلفاء الارهاب". إن تأثير أميركا في العالم المعاصر ولفترة غير معروفة، يفرض مقاربة الفكر السياسي الأميركي الذي هو الأساس وليس مجرد التعليق على بعض مظاهر السياسة الأميركية. هذا يعني ضرورة تخطّي المقاربات التبسيطية التي تلامس السطحية في كثير من الأحيان والعودة الى عمق الفكر السياسي التاريخي الذي شكّل القاعدة للتوجهات السياسية الأميركية، خصوصاً في موضوع علاقاتها الدولية. إنه الفكر الذي يرسم صورة العلاقة القائمة في الذهن الامبراطوري الأميركي... وفي الواقع حول: أميركا وبقية العالم. أولاً: مقومات أساسية 1- ان امتلاك نظرة بانورامية شاملة للكرة الأرضية هو المدخل الصحيح لفهم موقع أميركا ودورها وتأثيرها في العالم ككل وفي مصير الانسانية جمعاء. نحن في عصر الأحادية القطبية الشاملة إذن ازاء استراتيجية شاملة. 2- ان ملامح القرن الحادي والعشرين بدأت منذ بداية التسعينات بانتصار النموذج الليبرالي وانهيار النموذج الشيوعي وجاءت حرب الخليج الثانية لتؤكد هذه الحقيقة وتبرزها. 3- هذا الانهيار لم يأت من فراغ بل ساهمت في تأكيده الفجوة الاقتصادية - التكنولوجية التي حققها الغرب على حساب الاتحاد السوفياتي وخطا خطوات جبارة باتجاه العولمة في الاقتصاد والاتصالات والتكنولوجيا. 4- هذه العولمة، التي أطلق البعض عليها تسمية "الأمركة" جعلت السلطة الحقيقية في العالم تخرج من أيدي السلطات السياسية الى أيدي حكام جدد للعالم: - الأسواق المالية: البنك الدولي وصندوق النقد الدولي. - المنظمات الاقتصادية: منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية والمنظمة العالمية للتجارة. - المؤسسات الاعلامية مثل "سي ان ان" - الاتصالات: الحاسوب والأنترنت. - التكنولوجيا: الفضاء والأسلحة... ومعظم هذه المنظمات والمؤسسات، وربما كلها تقع ضمن نطاق الهيمنة الأميركية. ثانياً: أميركا عشية 11 أيلول سبتمبر 2001 1- أكدت الولاياتالمتحدة انها القوة العظمى العالمية الوحيدة من خلال ما ذكرناه، وبالتالي حققت التفوق الكاسح في القطاعات المفاتيح: العسكري والاقتصادي والتكنولوجي والثقافي، الى الحد الذي جعل الرئيس بيل كلينتون يقول: "ان الولاياتالمتحدة هي الأمة الضرورية للكرة الأرضية قاطبة". ولكنه قال مخففاً ومحدداً: "على أميركا ان تقود... لا ان تهيمن". 2- لكن أميركا وهي تصعد وتهيمن ومن الصعب الفصل بين القيادة والهيمنة في ظروف العالم المعاصر بدأت تفكر في أمرين: الأول: كيف عليها ان تجتهد وتتفوق وتسيطر. الثاني: كيف عليها ان تحافظ على تفوّقها وتتجنب الضعف في عالم متحول. 3- ان النجاح في تحقيق هذين الأمرين يفترض ان تبقى أميركا الحكم في الممر الضخم، حسب بريجنسكي، والمعروف بأوراسيا، أي الممر الممتد من لشبونة في البرتغال غرباً وصولاً الى اليابان شرقاً. واسمه يجمع بين أوروبا وآسيا، مروراً بالشرق الأوسط وآسيا الوسطى والصين وصولاً الى اليابان. ومن ضمن هذا الممر ولدت الامبراطوريات والدول الكبرى عبر التاريخ منذ زمن الامبراطورية الرومانية حتى زمن الامبراطورية البريطانية وسعت فيه وعبره للسيطرة على أكبر مساحة ممكنة من العالم: القديم والحديث... من دون ان تحقق أي منها هيمنة شاملة بالمعنى الكوني: أي على العالم... ولكن على الفضاء الخارجي! 4- بناء عليه، فإن كل استراتيجية أميركية للهيمنة الشاملة ولتثبيت هذه الهيمنة لا بد أن تأخذ في الاعتبار ثلاث حقائق أشار اليها بريجنسكي وهي: - للمرة الأولى في التاريخ أصبحت دولة بمفردها قوة عظمى شاملة. - للمرة الأولى في التاريخ تسود العالم قوة غير أوراسية. - للمرة الأولى في التاريخ أوراسيا مسورة بقوة غير أوراسية. وبما ان كل دولة، ولو كانت امبراطورية، تمر بمراحل أشار اليها ابن خلدون: النشوء والنمو والتوسّع وبلوغ القمة ثم الانحدار في مقابل صعود دولة امبراطورية اخرى، كان على أميركا ان تعمل لاستمرار تفوّقها الكاسح في أوراسيا بإضعاف القوى الممكن ان تشكل تحدياً لها على المديين القريب والبعيد أوروبا، روسيا، الصين، وحتى الهند. وكانت المفاجأة للأميركيين ان هذا التحدي جاءهم من قلب أوراسيا، ولكن من العالم الاسلامي عبر أحداث 11 أيلول 2001! إنه تحدّ إضافي ستسعى أميركا للرد عليه واحتوائه واستعماله لجبه بقية التحديات. كيف؟ ثالثاً: مدارس الفكر السياسي الأميركي إن متابعة للاعلام العربي ولتصريحات كثيرين من المسؤولين العرب حول سياسة أميركا الحالية وما فيها من نظريات وروايات حول ظاهرة المحافظين الجدد و"المسيحيين المتصهينين" تؤكد النزعة الطوباوية والطروحات التبسيطية التي يرتاح اليها الذهن العربي من ضمن مقولة "المؤامرة" كي يعفي نفسه من مشقة البحث الفكري والتدقيق الموضوعي في تحليل السياسة الأميركية قبل 11 أيلول وبعده وفي أثنائه. فالسؤال الدائم لدى أميركا، وغيرها من الدول، هو: ما الذي يحقق للولايات المتحدة قوتها ومصالحها وأمنها؟ ومنذ أيام جورج واشنطن أول رئيس لأميركا 1789 - 1797 تبلورت في أميركا أربع مدارس فكرية تشكل القواعد الأساسية للسياسة الخارجية الأميركية. 1- المدرسة الهاملتونية: من اسم السياسي الأميركي ألكسندر هاملتون 1757 - 1804 وقد عمل الى جانب أول رئيس أميركي جورج واشنطن 1732 - 1799 ودامت رئاسته عشر سنوات 1789 - 1797. وكان هاملتون بمثابة يده اليمنى: فكان وزيراً للاقتصاد، وأحد واضعي الدستور الأميركي ومنظم البنك الوطني الأميركي. ويرى هاملتون ان ازدهار أميركا وقوتها وأمنها ترتبط بقدرة الشركات والمؤسسات الاقتصادية الأميركية على النمو. إذاً، الرهان عنده اقتصادي. 2- المدرسة الجفرسونية: نسبة الى الرئيس توماس جفرسون 1743 - 1826 وكانت رئاسته في بداية القرن التاسع عشر 1801 - 1809. وتعطي هذه المدرسة الأولوية للديموقراطية الأميركية وضرورة المحافظة عليها داخل الولاياتالمتحدة نفسها في وسط عالم خارجي معاد لا ينبغي الذهاب اليه ولا العمل على اهتدائه وإنما العمل على ابقائه بعيداً من أميركا. ويذكر ان مبدأ مونرو الانعزالي يدخل في هذا التوجه. 3- المدرسة الجاكسونية: نسبة الى الرئيس الأميركي أندرو جاكسون 1767 - 1845 الذي انتخب رئيساً بين عامي 1829 - 1837. وتحمل هذه المدرسة ثقافة شعبوية آتية من الجنوب الأميركي حيث الشرف الشخصي والكرامة العسكرية يشكلان القيم الأولى في الحياة. ولا تسعى هذه المدرسة الى خوض الحروب. ولكنها اذا التزمت حرباً حيث المصالح الأميركية في الميزان فإنما لتربحها. وشعارها قول ماك آرثر الشهير: "البديل الوحيد للنصر هو النصر". 4- المدرسة الولسونية: العائدة للرئيس الأميركي توماس ولسون 1856 - 1924 وكان رئيساً إبان الحرب العالمية الأولى 1913 - 1921. وهو الذي أدخل أميركا في الحرب العالمية الأولى وأنشأ عصبة الأمم. تمثل هذه المدرسة تقليداً أميركياً وهو نشر القيم الأميركية في العالم، خصوصاً الديموقراطية، باعتبارها رسالة الولاياتالمتحدة وهي في الوقت عينه الضمانة الأساسية لأمنها وسلامتها. كان الرئيس بيل كلينتون أقرب الى المدرسة الهاملتونية وجعل في رأس أهدافه تحقيق النمو الاقتصادي لأميركا. ولكنه اضطر لظروف دولية ضاغطة ان يستعمل القوة الأميركية في السودان والعراق وكوسوفو لكن في شكل محدود. أما الرئيس الحالي جورج دبليو بوش فكان أقرب الى المدرسة الجاكسونية كونه جنوبياً من تكساس. ولكن أحداث 11 أيلول جعلته جاكسونياً - ولسونياً في آن وقرّبته من فكر المحافظين الجدد الذين هم في التفسير الأخير من المدرسة الولسونية الداعية لنشر الديموقراطية في العالم. وهكذا اجتمعت في شخصه نزعة الأصولية الجنوبية والمحافظين الجدد كما يمثلها ريشارد بيرل وبول وولفوفيتز. رابعاً: عملية التغيير يطرح المسؤولون الأميركيون أنفسهم كقوة تغيير في العالم، أي كرافعة تاريخية تسعى الى النهوض بالمجتمعات الراكدة التي تحكمها أنظمة استبدادية وتفتقر الى الحد الأدنى من الحرية والديموقراطية. وهذا الطرح "الولسني" نسبة الى مدرسة الرئيس ولسون يشكل نقلة نوعية في الفكر السياسي الأميركي. 1- عملية التغيير: القاعدة الايديولوجية إن الميزة التي أعطيت لهذه النقلة هي انها عملية تغيير في العمق تمثّل انتقال الفكر السياسي الأميركي من البراغماتية الى الايديولوجية. والايديولوجية بالتعريف هي نظام فكري يقوم على الايمان بحقيقة اجتماعية تمثّل المحرك الدينامي للجماعة / للأمة، وهي هنا تمثّل "دمقرطة" العالم بما يعكس تفوق أميركا وقبول أو اعتناق القيم الأميركية وليس فقط مجرد الموافقة على السياسة الأميركية. 2- أماكن التغيير: هل التغيير مقتصر على "بقية العالم"؟ جواب ريشارد بيرل في كتابه الأخير "نهاية الشر" ان التغيير يجب ان يبدأ من أميركا ذاتها. أ - داخل أميركا: من الضروري تغيير نظام العمل في مؤسسات أميركية مركزية أثبتت فشلها في عدم توقّع أو منع حدوث 11 أيلول. ومن هذه المؤسسات ال"سي آي ايه" وال"اف بي آي" وحتى وزارة الخارجية والبنتاغون بحيث ينبغي تفكيكها واعادة تركيبها بما يجعلها أكثر قدرة وفاعلية في حماية أمن أميركا وأمن الشعب الأميركي من "قوى الشر"! ب - أما خارج أميركا فاللائحة طويلة وتتناول اتحادات دولية ومنظمات ودولاً منها على سبيل المثال الاتحاد الأوروبي وعلى رأسه فرنسا ولا بد من تأديبه وتحجيمه لوقوفه ضد أميركا في حرب العراق. ومنها الأممالمتحدة المنظمة التي شاخت وأصبحت خارج عصرها وما زالت دائماً حسب بيرل متمسكة بمفهوم السيادة والمساواة بين الدول، أي بمفاهيم ما بعد الحرب العالمية الثانية، بل قبلها من عصر الدولة - الأمة. وبالتالي لا بد من تغيير ميثاق الأممالمتحدة بالذات. وموقف بيرل مفهوم عندما تساوي الأممالمتحدة بين صوت دولة كجزر القمر وبين الولاياتالمتحدة. ان النظام الدولي الذي تجسّده الأممالمتحدة يجب ان يعكس ميزان القوى الدولي الجديد في العالم والذي تمثل أميركا فيه بيضة القبان. وماذا عن دول محور الشر، والأماكن المظلمة التي يسمّيها كيسنجر المستنقعات حيث يترعرع الارهاب، ولا بد من تجفيفها، على حد تعبيره. ج - أدوات التغيير: اعتمدت أميركا من قبل أدوات الضغوط السياسية والاقتصادية على الدول التي تناهض سياستها. ولكن على أميركا الآن ان تبادر الى استخدام القوة العسكرية كأداة إذ "علينا ان نذهب اليهم قبل ان يأتوا الينا". ومن هنا اعطاء أميركا لنفسها الحق باستخدام "الحرب الاستباقية" والعمل على تغيير الأنظمة ومنع أسلحة الدمار الشامل عن الدول المارقة "دول محور الشر". د - تغيير ماذا؟ والجواب: تغيير الكثير في حياة غالبية الدول والشعوب: الأنظمة والزعامات والمفاهيم والذهنيات والثقافة وسلّم القيم والنظام التربوي في اطار مفهوم جديد لمعنى الدولة والسيادة... وفي ظل الديموقراطية والحرية. ه - تغيير من أجل ماذا؟ من أجل تخليص البشرية من الارهاب وتثبيت المعايير الجديدة للحياة الانسانية القائمة على الحرية والديموقراطية واستبدال ميثاق الأممالمتحدة بالاعلان العالمي لحقوق الانسان، والجماعات وباعتبار ان الدول الديموقراطية لا تتحارب. و - تغيير الشرق الأوسط: يجعل الأميركيون الشرق الأوسط هدفاً مركزياً لحملة التغيير بالحسنى أو بالقوة، لأن الذين قاموا بالهجوم على أميركا في 11 أيلول كانوا من الشرق الأوسط ومن دول متحالفة مع أميركا وقريبة منها. وبناء عليه يضع الأميركيون في رأس أهدافهم تغيير أوضاع الشرق الأوسط وربما العالم انطلاقاً من الشرق الأوسط. لذا قال وزير الدفاع رامسفيلد: "ان أحداث 11 أيلول هي فاجعة ولكنها فرصة لإعادة تشكيل العالم". أما مستشاره وولفوفيتز فقال: "العراق ليس هدفاً بذاته بل الهدف هو اعادة صياغة المنطقة". أما كيسنجر الذي اعتبر الحرب الأميركية على الارهاب بدءاً بالعراق حرباً ليس لأميركا فيها من خيار، أي أنها حرب الضرورة لا حرب الخيار، فقد دعا من جانبه الى تجفيف المستنقعات التي يولد فيها الارهاب ويعشش. وهذا التغيير في الشرق الأوسط، الذي بدأت ملامحه في مختلف دول المنطقة بدأ يطاول مختلف المجالات: الحريات والتربية والتعليم وحقوق الانسان والمرأة والانتخابات والسلطة والثقافة وكل مظاهر الديموقراطية. وفي هذا المجال يشار الى أمرين: الأول: ان العالم العربي والشرق أوسطي يؤكد ضعفه أمام الهجمة الأميركية بحيث تبدو غالبية الأنظمة العربية أضعف من ان تستطيع الممانعة فكيف بالمواجهة. والسبب الأساس عائد لوجود انفصام بين السلطة والمجتمع. والثاني: ان التجربة الأميركية الحالية تتزامن مع وصول قيادة يمينية متصلبة وراديكالية الى السلطة في اسرائيل على رأسها آرييل شارون بحيث تتقاطع المصالح الأميركية والاسرائيلية في أكثر من مجال وموقع، مما يزيد من الضغوطات على العرب. والخلاصة، ما هي حدود التغيير الأميركي في المنطقة. وما هو مدى استجابة الدول والشعوب العربية لهذه الضغوط؟ مهما كان أمر الجواب بالاستجابة أو الممانعة أو المقاومة، فإن المؤكد هو ان أميركا ستبقى سيدة العالم لفترة مقبلة غير قليلة وهذه هي الحقيقة الأولى بالنسبة الى العرب. والحقيقة الثانية هي ان الاصلاح في السياسة والثقافة والاقتصاد أمر ضروري، بأميركا ومن دونها. والحقيقة الثالثة ان العرب مدعوون لأن يتشبهوا بدول جنوب شرقي آسيا الذين استوعبوا تكنولوجية الغرب من دون ان يتبنوا قيمه الروحية والثقافية. والحقيقة الرابعة ان العرب قادرون ومدعوون للدخول في عصر الحداثة فيكونون هم وليس غيرهم، محتفظين بهويتهم وثقافتهم. والحقيقة الخامسة والأساسية، على العرب ان يكسروا الحلقة المفرغة بين السلطة والمعرفة والحقيقة ويعترفوا بتعددية الفكر كمدخل الى اثراء المعرفة والحياة والمجتمع. فقوة الدول تكمن في قوة مجتمعاتها. ولن يكون لديهم من سلاح في مواجهة الهجمة الايديولوجية الأميركية سوى ترس ايديولوجية المعرفة. ان الرد الوحيد على أميركا وعلى غير أميركا وعلى تحديات الحياة هو في قيام مجتمع المعرفة في العالم العربي لأنه السبيل الى بلوغ الغايات الكبرى: الحرية والعدالة والكرامة الانسانية